كشفت الأحداث المؤسفة التي شهدتها محافظة عدن ومركزها الرئيسي مدينة كريتر يوم أمس (السبت 2 أكتوبر 2021م) عن خلفيات لا تتصل فقط بمجرد تمرد عصابة مسلحة تسعى لإثارة الفوضى وممارسة البلطجة المسلحة ضد السلطات المحلية وأجهزة الأمن وضد المواطنين بشكل عام في عدن كما في عموم الجنوب، ولكن تلك الأحداث بينت أن الأمر له علاقة بأبعاد أخرى تتصل كما أشرت في منشوري يوم أمس بجوهر القضية الجنوبية ومحاولات وأدها بمختلف الوسائل الممكنة وغير الممكنة.
كل من يتابع الخطاب الإعلامي لمختلف المنابر التابعة لخاطفي الشرعية المهاجرة مثلما لجماعة الانقلاب الحوثية سيجد تنقلاً واضحاً في التعامل مع الشأن الجنوبي ومحاولة ابتلاع القضية الجنوبية باستخدام لغة سياسية منتقاة بعناية تلائم (أو هكذا يتصورون) اللحظة التاريخية المعينة.
لقد ظل الرافضون للإقرار بمشروعية القضية الجنوبية يتحججون بالحفاظ على " الوحدة اليمنية" ويعتبرون تمسك الجنوبيين بحقهم التاريخي في استعادة دولتهم "تمزيقا لوحدة الوطن" ولكن بعد أن قام هؤلاء بتمزيق الوطن شر ممزق فقد خَسِرَ حديثهم عن "وحدة الوطن" أية جاذبية، ولم يعد التغني بـه مثار سخرية المواطنين الجنوبيين وحدهم، بل وحتى المواطن الشمالي نفسه الذي يرى بأم عينية ويلمس بأصابع يديه كيف يتاجر هؤلاء بـ"وحدة الوطن" لتحقيق مزيد من الثراء غير المشروع تحت هذا الشعار المضلل والخادع الذي فقد كل بريق.
لكن بنك الشعارات لم يعدم البدائل لدى هؤلاء المخادعين، وهكذا رأيناهم يستدعون مما يدخرون من مخزون الوسائل في محاولة تفكيك الجنوب من الداخل، ولذلك رأيناهم يتحدثون عن مظلوميات "تاريخية"، كمظلومية "أبناء عدن" و"مظلومية أبين" و"مظلومية حضرموت" ومثلها شبوة والمهرة وسقطرة وراح البعض يكتب ويتفلسف عن مظلومية أبناء يافع والضالع والصبيحة واللحوج، ولم تبقَ منطقة من مناطق الجنوب ليست لها "مظلومية"، لكن هؤلاء المتذاكين قد خذلهم ذكاؤهم المفتعل، وتناسوا أنهم بهذا يقرون أن كل الجنوب مظلوم وأن من ألحق الظلم بالجنوب لم يكن إلا من دخله عن طريق الغزو العسكري المسلح ومارس من أعمال التدمير والإقصاء والتهميش ما لم يمارسهم ألد أعداء الشعوب مع الشعوب التي احتلوها عن طريق الغزو العسكري بهدف الاستعمار.
فلسفة "المظلوميات" المجزأة حيلة خرقاء يعتقد مخترعوها بأنهم من خلالها سيضعون الجنوبيين في مواجهة الجنوبيين، وهي أشبه بالقشة التي يتمسك بها الغريق عندما لم يعد يجد ما يستنجد به من الوسائل، أو إنها أشبه بحيلة التاجر المفلس التي يحاول من خلالها الترويج لبضاعة قد استنفدت صلاحيتها وساءت سمعتها في السوق ولدى المستهلكين، أما قضية الحصول على مؤيدين حقيقيين أو مستأجرين من بين الجنوبيين لترويج تلك البضاعة الكاسدة فهي مسألة غاية في البساطة، فحتى قدامى الغزاة المستعمرين كانوا دائما ما يجدون من بين السكان المحليين من يسندون إليه مهمة الترويج لمشاريعهم الاستعمارية، مع الإقرار بالفرق الشاسع بين المستعمر الذي يعترف بالشعوب التي يستعمر أراضيها، وذلك الذي يحتل ويصادر ويمارس كل أشكال الإقصاء والظلم والتهميش والسلب والنهب بحجة أنه هو الأصل والمنهوبين والمظلوميين والمقصيين والمهمشين ليسوا سوى الفرع الذي يمكنه أن يتصدق عليهم بما يتيسر من الفتات، وقد لا يتصدق حتى بهذا الفتات.
إثارة القضايا المناطقية بحجة "مظلومية" المنطقة "الفلانية" أو "العلانية" ليست سوى محاولة لتفكيك القضية الكبرى لأبناء الجنوب التي تتصل بها المظلومية الحقيقية لكل الجنوبيين، وهي بنفس الوقت محاولة لضرب الجنوبيين بالجنوبيين وإلهائهم عن قضيتهم الكبرى وصرفهم عن حقهم في ملاحقة الظالم الحقيقي الذي ما يزال يعتقد أنه يستطيع إعادة عقارب الزمن إلى ما قبل ربع قرن حينما جيش على الجنوب بجحافله وصواريخه وفتاوي مشعوذيه وزوامل شعرائه ومنافقيه.
الكرة في ملعب الجنوبيين، كل الجنوبيين، الذين لا بد أنهم قد أدركوا اليوم أن من يتباكى على عصابات البلاطجة بحجة "مظلومية أبناء عدن" هو من سلم بيحان والمديريات المجاورة لها للجماعة الحوثية ولم يبذل لتفسير عملية التسليم تلك ولو عُشْر المجهود الإعلامي الذي بذله للترويج للعصابة المارقة في عدن.