إن نظام الحكم الشمولي قد عانينا منه نحن العرب عامة واليمن خاصة ولا زلنا ومن ذلك نظام الحكم الديكتاتوري الفردي الذي يُـمجد فيه الزعيم، ويُـقدس الحاكم الذي يجمع كل السلطات بيده، والحزب الذي يسيطر على جميع مؤسسات الدولة؛ فيكون هذا الفرد الحاكم على رأسه وهو الآمر الناهي في كل شؤون المجتمع، ويصبح ما يقوله هو وحزبه العتيد فوق القانون، في الوقت الذي لا يخضع هو للقانون؛ لأنه يعتبر هو القانون ، بل وفوق المحاسبة، وبالتالي فإنه لا يتنحى عن السلطة تحت أي ظرف من الظروف، إلا إذا غيَّـبه الموت، أو نجح انقلاب في خلعه. والنظام الشمولي الدكتاتوري يقيم أجهزة بوليسية أمنية قمعية تنتهك الحقوق، وتبطش بمن يعترض أو يحاسب أو يختلف، مجرد اختلاف، مع مزاج الحاكم. ومن الأمثلة على هذه الأنظمة الشمولية الأنظمة القائمة في بعض الدول العربية حالياً، والأنظمة الشيوعية التي كانت قائمة إبان العهد السوفيتي في أوربا الشرقية وكوبا وبعض الدول في آسيا وأفريقيا .
ولعل من أسوأ الآفات التي عرفتها البشرية منذ القدم وحتى يومنا هذا هي آفة إلغاء الآخر أو إقصاؤه، والعقلية الإقصائية هي آفة المجتمع التعددي وخطرها عليه أشد فتكا من الخطر الخارجي!!
و صاحب العقلية الإقصائية يحاول التقليل من شأن الأشخاص الذين لا تتطابق وجهات نظرهم معه ، والذين لديهم أراء ومواقف تختلف مع آراءه ومواقفه. والإنسان ألإقصائي هو شخص أحادي التفكير، ينظر إلى العالم من حوله بمنظور إما اسود أو ابيض ، ويعتقد دائما انه على صواب والآخرين على خطأ. وإذا رفض الآخرون الانصياع لتفكيره الضيق، يعمل بكل الوسائل المتاحة له على محاولة إقصائهم، وذلك بالتشكيك في نواياهم والتقليل من شأنهم كبشر أحرار ومستقلون.
إن العقل ألإقصائي هو البنية التحتية الخفية لكل فعل عنفي. فالعنف، في خاتمة المطاف، هو الإقصائية في أعلى درجاتها، ولا عنف من دون بنية فكرية تبرره وتسوغ له الفعل. فالعنف يبدأ في العقل ثم يتحول إلى السلوك في النهاية. وعندما نتحدث عن العقل ألإقصائي، فإن الحديث ليس منصباً على تيار معين من دون آخر، كأن يكون تياراً دينياً أو غير ذلك، ولكنه حديث عن بنية ذات العقل، بغض النظر عن العباءة التي يتدثر بها، كأن تكون دينية أو دنيوية، يمينية أو يسارية، قومية أو وطنية. من أجل ذلك، نجد أن العقل ألإقصائي، على اختلاف عباءاته، هو الذي يقف وراء أكثر الكوارث في التاريخ البشري. فإقصائية قابيل هي التي دفعته في النهاية إلى التخلص من أخيه هابيل.!!
قبل عقدين كان جزء من النظام العربي أكثر رحمة وتسامحا مع معارضيه ونقاده، بينما اليوم أصبح الواقع العربي ضيق الأفق والصدر بكل ما يحيط به.
في بعض الدول العربية يصبح كل نشاط للمجتمع المدني خطراً على أصحابه، وفي حالات كثيرة فإن أدنى تعبير سياسي أو نقد تجاه الحكومة وأفرادها يواجه بإعصار من الغضب الرسمي والتهديد.
في دول بلا سياسة وبلا فضاء سياسي وفي ظل أنظمة قمعية فقدت الثقة بنفسها تتدفق شلالات الخوف لتشمل كل الناس.
وفي مقابل ذلك نسأل أنفسنا : أليست الصين ودول كثيرة تشبهها في آسيا خالية من الحريات ومن المجتمع المدني؟ فلماذا تنتقد دولنا بينما يتم غض النظر عن دول ديكتاتورية أخرى في آسيا وغيرها؟
وبينما الصين و الدول ذات المنحى السلطوي تتعرض للنقد كل يوم ولديها معارضون في الداخل والخارج، إلا أن ما يشفع للصين حتى الآن مرتبط بمقدرتها الفذة على الإنجاز ومواجهة الفساد.
في الصين ارتبط النجاح بوجود نخبة صينية ملتزمة بتنمية البلاد وتقدمها. بل يمكن القول بأن الصين ودول عديدة ناجحة في المضمار الاقتصادي والتنموي أكثر تركيزا على نمو الطبقة الوسطى، بل أكثر ذكاء وتوازنا في الفعل وردود الفعل من الكثير من الأنظمة العربية.
الكاتب فرج العشة حول الاستبداد يقول : بعث القبيلة في الدولة :"أبرز ثلاثة طغاة قبليين في الألفية الثالثة تشابهوا في نهايتهم المميتة حيث قضوا نحبهم مقتولين في مشاهد مريعة: صدام حسين يشنقه خصومه الطائفيون حكام العراق الجدد برعاية حليفهم المحتل الأمريكي والسند الإيراني المذهبي.
القذافي يقبض عليه "الثوار" بدعم مقاتلات الناتو في الأجواء فيما كان يحاول الهرب عبر بالوعة لتصريف مياه المطر وهو الذي وصف المتمردين عليه بالجرذان فقتلوه ومثّلوا بجثته!!
. وأخيرا على عبد الله صالح الراقص على رؤوس أفاعي التحالفات القبلية والحزبية والإقليمية قضى صريعاً بلدغات رصاص حلفائه الحوثيين الطامحين إلى حكم اليمن باعتبارهم الطائفة (القبيلة) المصطفاة."
وهنا يتساءل الكثيرون لماذا غابت الديمقراطية عن عالمنا العربي، وحلت وانتشرت وتجذرت في بلدان أخرى كدول أوروبا الشرقية وبعض دول أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية منذ الربع الأخير من القرن الماضي؟ ويمكن أن نوجز أهمها كما يلي :
أولا: طبيعة الثقافة السياسية السائدة في أغلب الدول العربية، ونعني بها القيم السائدة التي تتعلق بالحياة السياسية والعلاقة بين الحاكم والمحكوم، وهي الطاعة العمياء للزعيم دون مراجعة أو نقد، وتمجيد القائد واعتباره زعيما تاريخيا بيده مصير الأمة وقدرها..
ثانيا: حين تشيع ثقافة سياسية تمجد الزعيم وتنزع عن الجماهير قدرتها على الفعل والعمل، يـصبح العقد الاجتماعي السائد بين الحاكم والشعب قائما على نوع من التسلط والإكراه، ويصبح المصير كله بيد نخبة محدودة ولكنها مهيمنة على مفردات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مقابل غالبية جماهيرية مغيبة ليس تأثير..
ثالثا: إن الحرس القديم متجذر المصالح يدرك أن ذهاب الغطاء الشمولي عنه سوف يكشف كل عوراته وموبقاته، وكل ما خلفه للوطن من تراجع وتدهور على كل الأصعدة. ومن هنا،ولذا فإن معركته التاريخية هي ضد التغيير والتطوير. وحين يضطر لرفع شعارات ديمقراطية، يعرف تماما كيف يجعلها مجرد شعارات لا قيمة لها !!
رابعا: ما تزال مجتمعاتنا العربية قبلية وعشائرية وطائفية، وهذا ما أظهرته الانتخابات التي جرت قبل الثورات العربية وبعدها، فالشعوب ما زالت تصوت في الانتخابات على أسس مذهبية وطائفية وقبلية وعشائرية وجهوية ومناطقية. ومعظم الأنظمة تحكم منذ عقود على الطريقة الاستعمارية الشهيرة "فرق تسد"، وكما كان الاستعمار يعزز التناقضات العرقية والطائفية والقبلية بين سكان البلدان التي كان يستعمرها كي يبقي أهلها منشغلين بخلافاتهم وصراعاتهم، حتى يسهل عليه التحكم بهم وضربهم بعضهم ببعض كلما اقتضت الحاجة فيما لو فكروا بالثورة عليه!!
الديمقراطية في الغرب جاءت نتيجة صراعات اقتصادية واجتماعية وسياسية وأيديولوجية، تعارضت فيها الطبقة الإقطاعية والملكية المطلقة من جهة، والبرجوازية ومن وراءها الشعب من الجهة الأخرى خلال المرحلة الأولى، ثم السلطة البرجوازية من جهة والطبقة العاملة المنظمة من الجهة الأخرى في المرحلة التالية بعد انتصار البرجوازية على الإقطاع، وحدثت هذه الصراعات في ظروف لم يكن هناك عدو خارجي في الميدان السياسي والعسكري ولا حتى في الميدان الاقتصادي..
إن من حق أبناء الأمة العربية أن يعيشوا بحرية وكرامة، إن من حقهم أن يُعطوا الفرصة ليلحقوا بركب الشعوب الأخرى في الانشغال بشؤون العلم والتقدم والتطور. إن من حق هذه الأمة أن تلتفت إلى بناء نفسها ومواجهة الأخطار الخارجية التي تتهدد أبناءها وحضارتها وثرواتها ومستقبلها.
إن شعوبنا العربية لا تقل ثقافة ولا تعليما، ولا تنقصها الإمكانيات المادية والثروات الطبيعية عن بقية دول العالم، بل إن الوطن العربي هو نبع المواد الخام التي تدير مصانع الحضارة الغربية، ولذلك فليس من العدل والمنطق أن نبقى نحن أبناء العرب والعروبة محرومين من الحرية والديمقراطية ونبقى في دائرة الصراعات كأسلافنا في الجاهلية في حين تأكلنا الذئاب البشرية من كل أصقاع الأرض .
د.علوي عمر بن فريد