ابن خلدون الحضرمي والحالة اليمنية

2020-03-04 22:48

 

حضرموت هي بلد عالِم الاجتماع الذائع الصيت عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي، صاحب كتاب «المقدمة». ولد في تونس عام 1332م وتوفي في 1406م. أندلسي الأصل وحضرمي الجذور، كما أوضح ذلك في سيرته الذاتية. يرجع أصله إلى عهد النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) من خلال قبيلة عربية من حضرموت جاءت إلى شبه الجزيرة الإيبيرية في القرن الثامن، في بداية الفتح الإسلامي؛ حيث كتب: «ومن أصلنا من حضرموت عبر وائل بن حجر المعروف أيضاً باسم حجر بن عدي، من أصل العرب المعروفين والمحترمين»، حسب تعبيره.

ابن خلدون لم يكن مؤرخاً مشهوراً فقط؛ بل أيضاً كان فيلسوفاً، ودبلوماسياً، ورجل سياسة بامتياز؛ حيث عمل سكرتيراً مع أمراء المغرب، وسفيراً، ووزيراً، حتى بلوغه سن الأربعين عاماً.

لم تقتصر شهرته على العالمين العربي والإسلامي؛ بل امتدت أيضاً إلى الغرب، فقد كتب روجيه جارودي أن الفرنسيين في فترة الاستعمار الفرنسي استعانوا بكتابه «العبر» كمرجعية لهم في فهم المغرب العربي، وتركيبته القبلية، وكلفت وزارة الدفاع الفرنسية البارون دي سلين ترجمة كتابه إلى الفرنسية.

ولم يكتشف الغرب مؤلفات ابن خلدون إلا متأخراً في القرن التاسع عشر، ورأى جارودي تفسير ابن خلدون للتاريخ وقيام الإمبراطوريات وانحدارها، وتذكر ما قام به هيغل بعده بعدة قرون، فكتابه «العبر» ينقسم في الحقيقة إلى سبعة مجلدات؛ أولها وأهمها «المقدمة» التي يمكن اعتبارها عملاً منفصلاً، والمجلدات من الثاني إلى الخامس تغطي تاريخ البشرية حتى زمن ابن خلدون، والمجلدان السادس والسابع يغطيان تاريخ الشعوب البربرية والمغرب.

وبالرغم من الفارق الزمني، ستة قرون على كتابة مـؤلفاته، فقد اعتبر بعض الغربيين أن جانباً من نظرياته يقترب من مؤلفات مونتسكيو، من ناحية «تناوله للأخلاق السياسية»، ومن مؤلفات إميل ديركيم، فيما يتعلق «بالتضامن بين أفراد المجتمع الغربي، واعتبر منهجه في تحليل الأحداث يقترب من المنهج الذي اتُّبع بعد ذلك في الغرب، في القرن الثامن عشر.

كما سبق أن أشرنا إلى أن ابن خلدون كان رجلاً سياسياً بامتياز؛ لكنه قطع علاقته بممارسة النشاط السياسي ليتفرغ لكتابة التاريخ الإنساني في كتابه «العبر». وفي هذا الجانب تحديداً تساءل البروفسور في جامعة باريس المتخصص في تاريخ العصور الوسطى والعالم الإسلامي جابرييل مارتينيز – غرو: لماذا تخلى ابن خلدون عن النشاط السياسي ليتفرغ للكتابة؟ فالكاتب الشهير الآخر ماكيافيلي الذي قارنوه بابن خلدون كان يكتب من أجل العودة إلى السلطة، أو لوضع القواعد والرؤى التي تعين على ممارسة السلطة، بينما كان تكريس ابن خلدون نفسه للكتابة؛ لأنه غادر السلطة ولا يرغب إطلاقاً في العودة إليها؛ لأنه صدم باكتشاف خبايا ميكانيكية اللعبة السياسية، فلا توجد وفق وجهة نظره حكومة واعية تتفهم الواقع كما هو دون تزييف أو تجميل له، مما يؤدي إلى فناء السلطة السياسية، وهلاكها هي ورجالها.

والسؤال المطروح الآن: هل بعض من أطروحات ابن خلدون في القرن الرابع عشر وتشخيصاته، يمكن إسقاطها على واقع المجتمع الحضرمي واليمني بصفة عامة في القرن الحادي والعشرين؟

خصص ابن خلدون الفصل الثالث من المقدمة للدول والملك والخلافة ومراتبها وأسباب وكيفية نشوئها وسقوطها، مركزاً على العصبية، باعتبارها الدعامة الأساسية للحكم.

ماذا تعني العصبية بمفهوم ابن خلدون؟ العصبية بالنسبة له تعني الوعي الجماعي والتضامن والروابط القبلية، فهي لا تعني المجموعة لذاتها، وإنما الأفراد الذين تربطهم رابطة الدم والولاء والنسب. ويشعر الفرد بأنه جزء لا يتجزأ من أهل عصبته، وتذوب شخصيته الفردية في شخصية الجماعة، وإذا تعرضت العصبة إلى عدوان فإن أفرادها يهبون للدفاع عنها هبة رجل واحد.

ولذلك بدخول الحزبية في اليمن الشمالي للمرة الأولى في تاريخه استعداداً للتوحد مع جنوب اليمن، بادر الرئيس السابق علي عبد الله صالح إلى تأسيس حزب «المؤتمر الشعبي العام» في أغسطس (آب) 1982 ليكون موازياً للحزب الحاكم في جنوب اليمن، «الحزب الاشتراكي اليمني»، وبإعلان دولة الوحدة في مايو (أيار) 1990، تبنت الدولة الجديدة واجهة ديمقراطية بإجازة التعددية الحزبية والسياسية، وعليه نشأت عدة أحزاب، أهمها حزب «التجمع اليمني للإصلاح»، (من الأحزاب المتأسلمة المرتبطة بـ«الإخوان المسلمين») وتمثل غالبية أعضائها من أفراد القبائل اليمنية، وخصوصاً من قبيلة «حاشد» التي كان شيخها ورئيس حزب الإصلاح، الراحل الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، إضافة إلى عدد من التجار ورجال الأعمال. وكان البعض من النخب اليمنية يصف الأعضاء في مثل هذه الأحزاب بأنهم حزبيون في النهار وقبليون في المساء، على نمط شعار: «جمهوريون في النهار وملكيون في الليل»، كما كان رائجاً في فترة الحرب الأهلية في الستينات، بعد الإطاحة بالإمامة، ولذلك فإن كثيراً من النخب اليمنية تثق بالقبيلة كملجأ للدفاع وحمايتهم، أكثر من ثقتهم بالأحزاب التي ينتمون إليها.

بعد مفهوم العصبية، تطرق ابن خلدون في «المقدمة» إلى موضوع «الرئاسة» الذي سيتطور في «العمران الحضري» إلى مفهوم الدولة، فأثناء مرحلة «العمران البدوي» يوجد صراع بين مختلف العصبيات على الرئاسة، وهنا أذكر عبارة جميلة قالها الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، حين سأل عن طبيعة علاقته بالرئيس السابق علي عبد الله صالح، فأجاب بالقول: «إن صالح هو الرئيس وأنا شيخه؛ لأن (سنحان) هي أحد فروع قبيلة (حاشد)».

 

وفي جنوب اليمن، أغلب التجمعات السكانية مثل حضرموت وعدن هي في الأساس تجمعات حضارية مدنية، مقارنة بمناطق مثل أبين وشبوة والضالع التي تشكل معظم وحدات الجيش الجنوبي من أفرادها، والعصبية لديهم خفت عما كانت عليه في السابق، حيث إن «الحزب الاشتراكي» الذي حكم الجنوب قوَّض كثيراً - إن لم نقل حارب - القبلية تشريعياً وسياسياً، على أساس نظريته الاشتراكية الماركسية، ولكن نظام صالح استطاع بعد هزيمة الجنوب في حرب 1994 أن يعيد إحياء القبلية في بعض المناطق الجنوبية، باستثناء عدن وحضرموت، وإن كان من المؤسف والمحزن في آن واحد أن عدن، النموذج في المدنية والسلم والاستقرار، تضررت كثيراً بعسكرتها في الفترة الأخيرة، وشُوهت مدنيتها النموذجية عبر توافد نزوح جماعي من المحافظات الشمالية الأخرى، وكذلك أيضاً من قبل بدو المناطق الجنوبية العصبية من القبائل الشمالية، التي كان يعتمد عليها الرئيس صالح في انتصاره في حرب 1994 على الجنوب، وكافأ شيوخها وقادتها العسكريين - والغالبية منهم تتبع قبائل الشمال اليمني - بتوزيع مساحات من أراضي الجنوب، وعقود النفط المستخرج في الجنوب، كمكافأة لمؤازرتهم له في الحرب المذكورة. وهنا الاختلاف مع نظرية ابن خلدون الذي اعتقد أن الرئيس عند وصوله إلى السلطة معتمداً على العصبية القبلية يسعى لاحقاً لإنشاء جيش من خارج عصبيته، حتى أنه يقوم بجذب عناصر أجنبية من خارج عصبيته القبلية.

ومن جانبها اعتمدت جماعة «أنصار الله» في قيادة قواتها على العناصر الموالية لها من صعدة، ومن السادة الهاشميين، وجموع القوات التي شكلها الرئيس السابق، التي أصبحت موالية لمن هو قابض على زمام السلطة والمال.

والمفارقة بهذا الصدد أن قبائل «حاشد» لم تعد عصبيتها تدافع عن أبناء الشيخ الأحمر، شيوخ قبائل أخرى، بل وتخلت عنها، مما جعل غالبية تلك القيادات تهاجر خارج اليمن.

هذا العنصر الأخير - وإن كان صحيحاً - فهناك عامل المناطقية والارتباط بالأرض اليمنية الذي يجعلهم متضامنين مع صنعاء وقادتها أكثر من الاهتمام بعودة الشرعية من عدمها.