الصحوة الأميركية المتأخرة لا يمكن أن تؤسس لسلام مستدام، ولن تحقق مصلحة للأمن القومي العربي، ولن توفر للسعودية وللخليج العربي أمنا حقيقيا في المدى المتوسط والبعيد.
وكأن المشهد اليمني بحاجة إلى المزيد من التعقيدات، فالتصريحات المتوالية من الإدارة الأميركية لم تكن فقط مفاجئة بقدر ما تمثل تغييرا للتوازنات القائمة في اليمن على كافة المستويات السياسية والعسكرية.
الانعطافة الأميركية جاءت من خلال تصريح وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس في العاصمة البحرينية أولا بضرورة إيجاد حل سياسي للأزمة اليمنية، والتي أعقبها بتصريح ثان تحدث فيه عن وقف إطلاق النار خلال 30 يوما مع عقد جولة مشاورات للأطراف اليمنية في السويد، واضعاً خطوطا عريضة للرؤية الأميركية تتمثل في تأمين الحدود السعودية ومنح الحوثيين حكما ذاتيا في مناطقهم شمال اليمن، وأردف وزير الخارجية الأميركي بومبيو تلك التصريحات بحديث أكد على ضرورة وقف الحرب اليمنية دون تأكيد واضح من الجانب الأميركي على المرجعيات الأساسية لحل الأزمة.
الولايات المتحدة شكلت من خلال مواقفها من اليمن كل هذه التعقيدات، فقد كانت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما داعمة لما يسمى ثورة الربيع العربي في اليمن شأنها شأن تونس ومصر وسوريا وليبيا في إطار ما أطلقته الإدارة الأميركية السابقة بالتغيير في الشرق الأوسط. اليمن كان إحدى تلك الدول التي تم الدفع فيها بأحزاب الإسلام السياسي (حزب التجمع اليمني للإصلاح وأنصار الله) عام 2011، عملية الدفع الأميركية وصلت إلى أبعد من مجرد الدعم إلى تمكين قوى الإسلام السياسي من مواجهة الدولة عسكريا، وهو ما حدث بمواجهات الفرقة الأولى مدرع مع القوات الأمنية الحكومية حتى تدخلت السعودية عبر المبادرة الخليجية واستطاعت جمع اليمنيين على خارطة سياسية تجنب البلاد الصراعات العسكرية.
لم تكن الولايات المتحدة بعيدة عن زحف الحوثيين من معقلهم في صعدة وإسقاطهم لمدينة عمران حتى وإن شرعها آنذاك الرئيس عبدربه منصور هادي، فقد شكل سقوط عمران زلزالا هائلا أسقط مدن اليمن بداية من العاصمة صنعاء ومرورا بالحديدة وتعز وذمار وإب ومأرب وكافة محافظات اليمن الشمالية، حدث ذلك أمام أعين وكالة الاستخبارات الأميركية التي اكتفت بأن تغمض أعينها عما كان يحدث، بينما كانت وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون تربت على كتف توكل كرمان وتشجعها على ما حققته وتحققه في إسقاط الدولة وتسليمها للأحزاب الإسلامية في سياق موجة الفوضى التي اجتاحت العالم العربي.
تم وضع الرئيس هادي ونائبه خالد بحاح تحت الإقامة الجبرية واكتفت الولايات المتحدة بإصدار بيان يطالب الأطراف اليمنية بضبط النفس، لم تتحرك إدارة أوباما حتى مع إعلان الإيرانيين إسقاطهم للعاصمة العربية الرابعة في إشارة إلى التمدد الإيراني إلى صنعاء بعد بغداد ودمشق وبيروت، ومع الغزو الحوثي للعاصمة الجنوبية عدن لم تتحرك واشنطن وهي أكثر من يدرك أن سقوط عدن في يد إيران يعني أن الإيرانيين سيسيطرون على باب المندب ويلحقونه بمضيق هرمز في الخليج العربي.
غياب الولايات المتحدة لم يكن مبررا بالمطلق وكان على السعودية أن تتخذ الإجراءات اللازمة لحماية الأمن القومي العربي، فأطلقت عملية عاصفة الحزم، في مارس 2015، لاستعادة الشرعية السياسية وانتزعت القرار الدولي 2216 من مجلس الأمن، واستطاعت تحرير عدن والمكلا، ونجحت في تأمين السواحل الجنوبية للبحر العربي بالكامل بما في ذلك باب المندب حتى وصلت إلى مشارف مدينة الحديدة على البحر الأحمر.
شكل وصول دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة منعطفا هاما تمثل في موقفه الصارم من الاتفاق النووي مع إيران والذي انتهى فعليا بانسحاب واشنطن من الاتفاق في مايو 2018، ووضع استراتيجية أميركية للتعامل مع أذرع إيران في الدول العربية، ومع ذلك كانت مواقف واشنطن سلبية للغاية، وحتى أثناء استعراض مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة نيكي هيلي للأدلة المادية على أجزاء من الصواريخ التي استهدفت بها العاصمة السعودية الرياض في نوفمبر 2017 وتؤكد أنها صناعة إيرانية، لم تكن الولايات المتحدة تفعل أكثر من تسويق استراتيجيتها واستعارضها أمام المجتمع الدولي.
في هذا النطاق يجب أن نقرأ الصحوة الأميركية في الحرب اليمنية، فالولايات المتحدة تريد أن تحقق مكاسب سريعة بعد أن تبدأ حزمة العقوبات الثانية على النظام الإيراني، وتعتقد أن الملف اليمني يعد الملف الأكثر قدرة على تحقيق اختراق سريع يثبت نجاعة الاستراتيجية الأميركية تجاه إيران، وقد تكون واشنطن محقة في ذلك بالنظر إلى الأذرع الإيرانية الأخرى في لبنان وسوريا والعراق، فالحوثيون هم الذراع الإيرانية الأضعف مقارنة بالأذرع الأخرى، ولكن هل يمكن القبول بحلول تؤسس لحروب جديدة في اليمن؟
مشكلة الولايات المتحدة وهي تطرح أفكارها حيال معالجة الأزمة اليمنية أنها غير قادرة على استيعاب التعقيدات اليمنية الداخلية وإفرازات الحرب على مدار أكثر من ثلاث سنوات من الصراع المسلح، فالأفكار الأميركية التي تؤمن بأنه يمكن نزع السلاح الثقيل والمتوسط وانسحاب ميليشيات الحوثي من الحدود السعودية ونشر قوات مراقبة دولية ليست واعية بأن ذلك أمر صعب التنفيذ، وإن كان الحوثيون يرون في الحكم الذاتي انتصارا لهم باعتباره سيمكنهم من تأسيس دولة طائفية شيعية في الجزيرة العربية، بينما سيرفض الجنوبيون في المقابل حكما ذاتيا دون تقرير مصيرهم السياسي.
الصحوة الأميركية المتأخرة لا يمكن أن تؤسس لسلام مستدام، ولن تحقق مصلحة للأمن القومي العربي، ولن توفر للسعودية وللخليج العربي أمنا حقيقيا في المدى المتوسط والبعيد. الصحوة الأميركية لن تستطيع سوى تحقيق مسألة وحيدة وهي أن تجمع الأطراف اليمنية لخوض مشاورات مفتوحة في أعلى درجات الممكن السياسي وفقا للتوازنات الحالية، ويبقى المتغير الممكن استكمال التحالف العربي لعملية تحرير ميناء الحديدة، فبعدها يمكن أن تتغير التوازنات ويمكن تحقيق الاختراق السياسي للوصول إلى حلول ممكنة، ودون ذلك ستظل الولايات المتحدة بعيدة عن أن تحصل في اليمن على جائزة تثبت نجاعة استراتيجيتها في معاقبة النظام الإيراني على حساب الملف اليمني.