• سنة هي مدة غيابي المعتاد عنها بعد أن ألجأني ضيق العيش للاغتراب خارجها .. لأعود لأجدها مدينة أخرى غير التي غادرتها ..!! بالطبع لم تتغير تلك المباني المهدمة فهي الوحيدة التي ظلت كما هي، ولا حتى ساعات انقطاع الكهرباء التي زادت بطبيعة الحال كما هو متوقع .. لكن هناك مشاهدٌ أجدها لأول مرة في عدن ..!
• أكثر المشاهد إيلاماً هو ذلك التغيير في الهوية ..! نعم فقدتُ هوية عدن وانا اتنقل في شوارعها ومناطقها .. عدن كانت لها قدرة سحرية على تغيير شخصية كل من يدخلها لتصبغه بطابعها الفريد .. ليتحول بعد أشهر قليلة لـ (العدني) شكلاً ومضموناً، اما الآن فبمجرد مرورك لامتار قليلة نجد اشكالاً وألواناً في اللبس واللهجات، وحتى اسلوب وطريقة التعامل! اقل ماتوصف به أنها همجية.
• تعددية عدن واختلاف الأعراق والألوان .. كانت أكثر ما يميز عدن لكنها كانت دائماً تحت مظلة (العدني) لا كما هي اليوم .. حيث يصر البعض أن يحضر معه قريته إلى داخل عدن .. بل ويتفاخر بها فترة مكوثه في أعظم مدينة كونية ..!! بل البعض يذهب لأكثر من ذلك حيث يصر على أن يغير هالطبيعة من خلال ممارسات لا أخلاقية والزج بعادات لا صلة لها بواقعه الذي يعيشه الآن ..
• ألفاظ مثل (يا طيب - يا محترم - لو سمحت ) غابت طوال فترة مكوثي فيها ..! ولم أسمعها إلا فيما ندر عند بعض من يحاول أن يتمسك بتلك العادات والتقاليد التي ورثناها !! لتحل محلها (يا شيخ - يا فندم) التي لم نعهدها إطلاقاً وفيها الكثير من الشعور بالدونية واستعلاء من يُنادى بها ..
• وجوده الناس كساها البؤس !! غابت تلك الضحكة والابتسامة التي اشتهر بها (العدني)!! ليحل محلها الكثير من الألم والحزن .. العبوس هو أول ما تراه في تلك الأوجه المثقلة بالهموم ..!
• السمة البارزة هو انقلاب أوضاع الناس .. فمن كانوا بالأمس أعزة ميسوري الحال، وصلوا لمرحلة التسول - غصباً - لابتزازاهم في قوت يومهم .. ووصول الأسعار إلى مرحلة (اسرقوا عشان تعيشوا) وعلى الطرف الآخر تجد الـ (رويبضات والتافهين ومن لا أخلاق لهم) قد تصدروا المشهد العدني وصاروا شخصيات اجتماعية يُشار لها بالبنان بل ويتم التزلف والتقرب إليهم لكسب ودهم ، وتقديمهم كنماذج جديدة تمثل عدن وأهلها .. !!
• المقاهي والمقايل وكأنها مقابر !! صمتٌ مطبق .. يفر أحدهم إلى كوب الشاي دون أن ينبس ببنت شفة ..!! بعد أن كانت تلك الأماكن هي الراعي الحصري للـ(الشوهة العدنية) بكل ما فيها من ضحك لحد القهقهة .. وإن تحدث أحدهم تجد مفردات الـ شقاء والتعب هي مدار ذلك الحديث .. شكاوى دائمة .. وطفش لا ينقطع بسبب سوء الأحوال التي يعيشونها ليل نهار ..
• شوارع عدن لا يكاد يخلوا شارع منها من صورة شهيد !! في كل بيت هناك من فقدناه في هذه الحرب ..! سنة أخيرة كانت كفيلة لزيادة هذه الأرقام بصورة هستيرية ..! غابت اجساد شبابها على أرضها لتنتقل صورهم على أعمدتها وجدرانها .!!
• في الطريق ترافقك الضوضاء حيثما ذهبت .. (الطرادات - سياكل النار) ثقافة دخيلة تم جلبها لـ عدن لحسابات سياسية وأخرى تتعلق بارتفاع سعر البترول لتكون بديلاً عن تنقلات الناس بالسيارات .. منطقة كالشيخ عثمان .. تكاد تصل إلى مرحلة منع البشر من المرور فيها حتى يسير بها أصحاب السياكل الذين يزاحمون المشاة بكل شبر ..
• غابت النوافير التي كانت تزين شوارع عدن .. لتحل محلها نوافير تنبع من باطن الأرض .. بروائحها الكريهة .. (البلاعة) هي رفيق دربك أثناء سيرك في شوارع عدن .. لا يكاد يخلوا منها شارع أو زغط .. لترى الناس من حولك قد تحولوا إلى راقصي باليه وهم يقفزون من حجرة لأخرى ليتجاوزوا ذلك النهر المتدفق ..
• تتجول بعد السادسة مساءً لتجد المئات عند الباب متسمرين على شاشات جوالاتهم فقط لان الواير ليس لا يصل إلى داخل منازلهم .. يقفون ويجلسون كالأشباح في ظل اضطرارهم للتعامل مع الشبكات البديلة لضعف الانترنت عموماً وفي غالب الأحيان لغياب الكهرباء أساساً ..
• الكلام عن الطموح، والمستقبل لا وجود له إطلاقاً .. بل كل ما يشغل حال الناس هو الكلام عن الماضي ..! نعم هم يطالبون برواتبهم المستحقة لشهور فائتة ..! هم يتمنون أن تعود الكهرباء كما كانت عليه فقط منذ سنوات حتى برغم تلك الانقطاعات ..! هم فقط يتمنون أن يعودون لماضي كانوا يشتكون منه فقط لأنه يمثل حالاً أفضل من واقعهم .. وأما المستقبل فقد صاروا يخشونه ويخافونه كثيراً نظراً لغياب أي بشائر تشعرهم بتحسن قادم ..
• باختصار ..
فقدنا عدن التي تربينا عليها .. بفعل متعمد تماماً .. يبقى أهل عدن وحدهم من يحاولون أن يتمسكون بتراث عدن وهم أشبه بمن يقبض على جمر وسط كل هذه المتغيرات.. بعد أن صاروا كـ (الموتى الأحياء) في بلدهم وأرضهم ..!!
#ياسر_علي – شبوه برس