كشف انقلاب الحوثيين في سبتمبر 2014م مدى ما تتمتع به أحزاب التطرف الديني السياسي من قوة تستند عليها، وهو ما ينطبق على كل من الحوثيين والإخوان المسلمون الذين كانوا قد سعوا لإسقاط النظام السياسي على إثر ما يسمى (الربيع العربي) ويحمل في اليمن مسمى «ثورة 11 فبراير».. ومراقبة الثلاث سنوات التي أطاح فيها الحوثيون بالإخوان المسلمين ومعهم كل المكونات السياسية، تعطي المراقب قراءة لمدى ما تمتلكه هذه التيارات من قوة قبلية تستطيع من خلالها إحداث هذا التغيير الكبير بما في ذلك إسقاط سلطة الدولة.
في اليمن توارت القوى الليبرالية بشكل مخيف خلال الصراع المحتدم، والليبرالية التي أيضاً تعرضت لموجة عنف سياسية في حرب صيف العام 1994م على اعتبار أن الحزب الاشتراكي في جنوب اليمن كان قائماً على أصحاب الفكر الليبرالي، فلقد عرف اليمن الجنوبي خلال الفترة من 1967م وحتى 1990م نظاماً سياسياً علمانياً نتيجة انتهاج النظام الشيوعي ما بعد الاستقلال عن الاستعمار البريطاني، وأن ظل في ثنايا علمانية اليمن الجنوبي متعلقات قبلية تسببت خلال سنوات اليمن الجنوبي في صراعات دامية توجت في أحداث 13 يناير 1986م وأن كانت تلك الأحداث تمثل إرهاصات تهاوي الاتحاد السوفييتي فلقد اعتبرت تلك الأحداث الدامية أنها الإشارة على نهاية الحقبة السوفييتية في نهاية الثمانينيات الميلادية من القرن العشرين الماضي.
لم تكن هزيمة الحزب الاشتراكي في حرب صيف 1994م لتتم لولا فتاوى التكفير التي صدرت عن الإخوان المسلمين ومن خلالها تم التحشيد للتصفيات الجسدية الواسعة النطاق، من المهم إدراك أن ما حدث في اليمن لم يكن حدثاً عادياً في تلك الحرب، فلقد تم تأسيس ثقافة التصفية لمجرد الانتماء لتيارات ليبرالية، ومثال على ذلك حادثة اغتيال جار الله عمر الأمين العام المساعد للحزب الاشتراكي اليمني الذي اغتيل في 28 ديسمبر 2002م بعد أن تلقى رصاصتين في صدره أمام أكثر من 4000 شخص هم أعضاء وضيوف المؤتمر العام الثالث لحزب التجمع اليمني للإصلاح الإسلامي وأمام شاشات التلفزة ووسائل الإعلام المختلفة بعد دقائق من إلقائه لكلمة قوية نيابة عن الحزب الاشتراكي أمام المؤتمر العام.
حادثة الاغتيال كرست في اليمن إقصاء الليبراليين تماماً، فلم تعد الليبرالية ملاذاً آمناً للفرد أو حتى للمجموعات الحزبية، وظل الليبراليون الحقيقيون أبعد ما يكونون عن التأثير السياسي والمجتمعي حتى مع محاولة الرئيس السابق علي عبدالله صالح الاستعانة بهم بعد العام 2006م لمواجهة المد الديني المتطرف الذي كان يشكل الإخوان المسلمون وجماعة الحوثي فيه خطراً متصاعداً على النظام السياسي، فحزب الإصلاح كان يهدد النظام سياسياً، بينما كان الحوثيون يهددون النظام عسكرياً من خلال حروب صعدة الستة.
من الصعوبة اعتبار أن أمام الليبرالية فرصة حقيقية خصوصاً بعد أن طعنت من قبل التيارات الإسلاموية طعنات موجعة، فالإخوان المسلمون الذين صعدوا على أكتاف شعارات الدولة المدنية في 2011م هم ذاتهم اليوم الذين يشكلون عبر أذرعهم المختلفة، سواء تلك المرتبطة بتركيا أو المرتبطة بالنظام القطري، خطاباً تحريضياً مشحوناً بالكراهية، وتعبئة خانقة تسد الأفق السياسي أمام القوى المستقلة التي لم تستطع أن تتواجد في ظل التأجيج المستمر وافتعال الأزمات الدائمة، ويقابل الإخوان الحوثيون الذين طعنوا مخرجات الحوار الوطني وأضاعوا فرصة مثالية لليمن ليؤسس لبلد ديمقراطي.
ومن اللافت أنه على الرغم من تعدد وسائل الاتصال وانتشارها هناك استمرار لتواري الخطاب الليبرالي السياسي في المشهد اليمني، فلا يمكن إعفاء الآلاف من الناشطين والخريجين من الجامعات من أداء دورهم ولو من باب طرق الأبواب الموصدة، فحالة الانغلاق الليبرالية غير مبررة مهما كانت الدوافع والمسببات فترك الساحة للمتأسلمين هو الذي يقود إلى زيادة التأزيم، فالقاعدة المعروفة أن التيارات الإسلاموية تتغذى على الأزمات، وهذا ما يجري في اليمن بشكل مستمر، ومن المهم إيقاف هذه الأزمات والفوضى لتمكين تيارات أخرى قد لا تتمكن من تحقيق الانتقال السياسي الكامل، ولكن يمكنها أن تحقق نسبة استقرار تسمح بتمرير مشروعات الإعمار التي تتحفز لها دول التحالف العربي، وإن كان التطلع اليوم أن يكون الإعمار محدداً في التعليم والصحة بإطلاق برامج واضحة المعالم والأهداف الأساسية التي تتطلب تجفيف منابع التطرف في اليمن.