لم تعد السياسات الليبرالية التي قادت اوروبا الغربية وامريكا بعد الحرب العالمية الثانية في منأى من تفاعلات داخلية كانت مدفونة على مدار العقود الماضية، خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان مشهداً من مشاهد صعود الشعبوية في معقل من معاقل الليبرالية الغربية، وفوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية كان تأكيداً على جموح الشعبوية وانتقالها عبر المحيط الاطلسي كما عبر كريستوفر كولومبوس إلى أمريكا ليكتشفها، ها هي الشعبوية تنتقل بذات الشكل من أوروبا إلى أمريكا وتطلق نفسها في فراغات لم يستطع الليبراليون من ملئها فازدادت توحشاً يوماً بعد آخر.
بينما يصفق ملايين البشر حول العالم للفرق الكروية التي تتنافس في كاس العالم تدور منافسة أخرى من نوع آخر لا تلتفت لها تلك العيون التي تزداد إعجاباً بالليبرالية الغربية وهي تمزج بين الأعراق في منتخبات كرة القدم لتنتج فرقاً تستطيع أن تقهر مدارس الكرة العريقة، ففي بروكسل مقر الاتحاد الأوروبي تدور معركة حول اللاجئين وبين اوروبا وأفريقيا يوجد البحر الأبيض المتوسط الذي يغرق فيه العشرات يومياً من الأفارقة الحالمين بأن يكونوا على غرار دروغبا اللاعب الأكثر شهرة والقادم من أدغال أفريقيا ليكون نجماً في القارة الأوروبية وكذلك العالم.
خاض الرئيس الفرنسي ماكرون حرباً ضروساً ليبعد اليمين عن الأليزية، ولم تستوعب الليبرالية الأوروبية هذا الجنوح نحو اليمين حتى والبريطانيين يبحثون عن علاقة مختلفة مع الاتحاد الأوروبي أو بالشكل الأدق مع التقاليد الليبرالية التي يجسدها الاتحاد الأوروبي، فما حدث في بريطانيا كان انحيازاً نحو الشعبوية أو بصورة أخرى استعادة البريطانيين لميراثهم القديم بقبائلهم وموروثاتهم، صراعات متداخلة في مجتمعات أوروبية كانت حتى وقت قريب تمتلك النموذج الأكثر شمولية للحياة في التاريخ البشري.
اليمينية لوبان بشعرها الأشقر وضعت بذرة في الأرض الأوروبية انبتت في ايطاليا حكومة يمينية كاملة مشكلتها الأولى اللاجئين، فلقد ساهمت أزمة اللاجئين في إشعال الخطاب المتعلق بالحفاظ على الهوية القومية الأوروبية تجاه مخاطر زيادة أعداد اللاجئين وهي القضية التي استغلتها الأحزاب اليمنية المتطرفة لتأجيج المخاوف من ضياع الهوية القومية بشكل خاص، والهوية الأوروبية بشكل عام، وساهمت سلسلة من الحوادث المؤسفة التي وقعت في العديد من المدن الأوروبية مثل مجزرة تشارلي أبدو في باريس، والتفجيرات الانتحارية في بروكسل في زيادة مخاوف المواطن الأوروبي بحيث أضحى الناخب الأوروبي يضع المخاوف المتعلقة بالهوية فوق كل اعتبار، وعليه أصبح اليمين المتطرف صاحب الخطاب الشعبوى المعادي للمهاجرين الملاذ الآمن له.
في المانيا وللمرة الأولى بعد الحرب العالمية الثانية يصل حزب "البديل من أجل المانيا" للبرلمان وهو يمثل اليمين الالماني المعارض حتى للعملة الأوروبية الموحدة ومع دخوله البرلمان وتحقيق مقاعد تجاوزت العشرة يكون اليمنيين الألمان قد بلغوا طرق الباب السياسي لتتحول المانيا من الليبرالية المُطلقة إلى الشعبوية وما قد ستجر خلفها من ويلات، معظم أحزاب اليمين الشعبوي في أوروبا لها موقف متشدد تجاه الاتحاد الأوروبي ولكنها تتخذ من مسألة الهجرة والموقف منها بوابة لزعزعة الاتحاد رغم تراجع أهمية ومخاطر هذه المسألة، وفي هذا السياق يبقى الرهان على زعامة مستشارة ألمانيا السيدة ميركل بإسناد من الرئيس الفرنسي ماكرون، لضمان استمرار الاتحاد ولعل نجاح المستشارة ميركل في تفويت الفرصة على اليمين الشعبوي في ألمانيا وخارجها من خلال توصلها إلى اتفاق مع وزير داخليتها والائتلاف الحاكم على حزمة توافقات بشأن مسألة الهجرة ما يشير إلى أن رغم اهتزازات الاتحاد الأوروبي إلاّ أنه قادر على الصمود في وجه التحالفات الشعبوية اليمينية المتطرفة في أوروبا.
الشعبوية انتصرت وفرضت شروطها على ثمانية وعشرين بلداً داخل الاتحاد، فمما لا شك فيه أن موضوع الهجرة كان أحد الموضوعات الأهم التي ركزت عليها أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا خلال السنوات الأخيرة، وظهر ذلك في المحطات الانتخابية التي نزل فيها اليمين المتطرف بثقله مسلحاً بخطابه الشعبوي الذي يضع على رأسه رفض الآخر ويطالب بإغلاق القلعة الأوروبية في وجه المهاجرين، وإعادة النظر في قوانين الهجرة واللجوء، وبالرغم من فشل هذه الأحزاب في تحقيق انتصارات واسعة في عدد كبير من البلدان الأوروبية نتيجة لخطابها الذي لا يلقى صدى لدى الطبقة السياسية التي اصطفت في مواجهته، إلا أن القمة الأخيرة للاتحاد الأوروبي تشكل عربوناً على نجاح مشروعه، مستفيداً من الأزمة التي تسببت فيها قضية الهجرة.
وجه آخر تُطل منه الشعبوية يتمثل في الفساد المالي سواء في القطاع العام أو الخاص، هنا مسلك من المسالك التي تجد فيها الشعبوية طريقها نحو التفشي حتى في المجتمعات التي تسيطر عليها أنظمة الحوكمة وإذا كانت الشعبوية تواجه المؤسسات الليبرالية فأن هذه المواجهة سيتعين دعمها في أوروبا وأمريكا كونها معاقل الليبرالية وتعزيز توجهات المجتمعات الأخرى لبناء مؤسسات قادرة على ضبط الموارد والانفاقات ففي المجتمعات الشعبوية على غرار كثير من دول الشرق الأوسط تتمتع الشعبوية بنفوذ واسع مثال ذلك تركيا التي تمارس الديمقراطية على ما يشتهي اردوغان مسخراً الخطاب الشعبوي للمصلحة السياسية .