السنن الربانية : الإعتدال والتطرف

2017-12-22 18:58

 

كثيرا ما نسمع  ثناءَ بعض الناس على نمط من السلوك يسمى "الوسطية" وهي نقيض التـــّطرف المذموم..

فمن اين جاءت هذه المفردة، هل وفدت الينا ضمن تيارات الثقافة الغربية الحديثة، ام انها تعبير عن توجه سلوكي اصيل في تراثنا ومعتقداتتنا،

 

اعلموا اعزائي ان مفهوم الوسطية هو إرث حضاري انساني رباني، نابع من السنن والقوانين الربانية، التي أقام الخالق جل وعلا نظام عوالم الخلق في السماوت والارض على اساسها، ومنها عالم البشر، بني آدام، وجاءت رسل  الله ومعها الكتب المنزلة معهم، لتوضيح وتفصيل هذه القوانين او السنن، لمن اراد ان يتدبر ويتعلم ماهية و مفعولية تلك السنن، ومن خلال ذلك يتعرف على الخالق جلّ شأنه.

ويمكن ببساطة ادراك ان مفردة الوسطية تعني وجود طرفين متقابلين متعاكسين لها،

 كما يمكن بيسر  فهم ان هذين الطرفين مذمومين، وان لزوم حد الوسط، الواقع في منتصف المسافة بينهما، هو المرغوب والمأمون والمحمود.، ويسمى حد الإعتدال.

وهذه الوضعية تنطبق على كل فعل وصفة بدون استثناء،

 

فمثلا الإنفاق، اذا اكثر الانسان من النفقات بصورة مفرطة، وزائدة عن الضرورة  والحاجة، فإنه يكون قد مال الى احد الطرفين  المذمومين، ويوصف الانفاق في هذه الحالة بانه إسراف وتبذير، أما اذا مال الى الطرف الآخر المعاكس، وهو الامساك بالمال وكنزه، والحرص الشديد عليه، مع وجود حاجة وضرووة للإنفاق، فيسمى هذا التصرف وهذا المسلك ب البخل والشح، وهو ايضا مذموم، شرعا وعرفا وذوقا،

 

 والى هذا المعنى تشير الآية القرآنية ( ولا تغللْ يدك الى عنقك، ولا تبسطها كل البسط ) اي إلزم حد الإعتدال، ولا تقارب احد الطرفين المذمومين، المنهي عنهما،

 

وقياسا على هذا المثال، يمكن استنباط الوسطية، اي حد الإعتدال، وطرفيها، والوقوف على مسمى كل طرف، في كل ما يمر بنا من تصرفات ومسالك وصفات، وهي اكثر من ان تحصى.

فمثلا الشجاعة اذا زادت عن حدها تسمى تهورا، واذا نقصت الشجاعة فيوصف الحال بانه جُبْن وخوف وذل.

 

والحب ايضا له وسط وله طرفان، فاذا اختفى الحب، وتطرّف صاحبه، فقد يحل محله البغض والكره، واذا زاد الحب عن المعقول، فإن صاحبه يوصف بأنه ضعيف ومغفل.

 وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لسيدنا علي بن ابي طالب :

" هلَكَ فيك اثنان،" اي صنفان من الناس، بمعنى ذهب الصنف الاول الى طرف وذهب الصنف الثاني الى الطرف الآخر، وكلاهما هالك،

تتمة الحديث قال ص  : هلك فيك اثنان، "مُحبّ غال، ومبغض قال" غال اي بالغَ وغالى في المحبة الى درجة ان وصفــَ الإمام علي بأوصاف تخرجه عن البشرية، والآخر مبغض قال، اي بالغَفي كرهه للامام الى درجة القلــْى، اي الترك والبعد والإنتقاص.

 

وهكذا فان لكل فعل ومسلك وضع وسطي محمود ومندوب، وطرفين مذمومين، ومنهي عنهما،

 

ويصح القول عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أنه داعية { الوسطية } وكأنه إنما بُعث ليعيد الناس الى حالة الإعتدال، فإنه ما خـــُيّر بين أمرين، الا اختار اوسطهما، اي حد الاعتدال المحمود، ومن ذلك قوله لأصحابه ������ لا تـــُطروني كما اطرت النصارى عيسى بن مريم )، أي مجدوه وعظموه حتى وصلوا منتهى الطرف المذموم، إذ جعلوه لله ولدا، وحاش لله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤا احد، أن يتخذ صاحبة او ولد. فالنصارى وأمثالهم طائفة متطرفة.. ولو انهم اتبعوا الرسول الامي الخاتم المبعوث رحمة للعالمين، لأعادهم الى حد الإعتدال، مع بقاء تعظيمهم لرسولهم عيسى.

 

وفي الصلاة جاء توجيه الحق سبحانه في القرآن الكريم " ولا تجهر بصلاتك، ولا تخافت بها، وابتغ بين ذلك سبيلا  "

 

وقد جاء نفر من الصحابة من خارج المدينة يسألون عن مسلك الرسول صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة في العبادات النوافل، ثم تشاور الثلاثة فيما بينهم فأعلنوا عزمهم التفرغ كلية للعبادة، قال احدهم فاني سأقوم الليل كله، وقال الثاني وانا لن اتزوج النساء كي لا انشغل عن العبادة، وقال الثالت أما انا فسوف اصوم الدهر ولا أفطر، فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما عزموا عليه، فصعد المنبر مخاطبا الصحابة، ما بال اقوام يقولون كذا وكذا، اي ما عزم عليه الثلاثة، امــَا اني لأقوم من الليل وانام، وأصوم وافطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني.

 

هنا اعلن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أن سنته إجمالا ترتكز على الوسطية، حد الإعتدال، ولا تقر التطرف في العبادة وفي غيرها.

 

الأعزاء الأماجد :  يتضح من العرض السابق ان التطرف ليس مقتصرا على الفكر،  كما هو شائع بيننا، وإنما هو سلوك يمارسه كل منا على مدار الساعة، فنحن إن أحببنا شخصا او استلطفناه حولناه الى ملاك، وإن ابغضناه رأينا فيه شيطانا مكتملا،  كما أنا نجد بيننا اصنافا من الشباب والرجال المتدينين يبالغون في التدين، او قل يتطرفون، الى درجة تجعل الآخرين ينفرون من التدين ذاته، واعني في دائرة النوافل والقرب والمتع المتاحة، وفي بعض المسالك التي تدخل في باب الرخص، والأخطر من ذلك مواقفهم ورؤاهم في النظر والتعامل مع الأخر، وما ذاك الا لقلة فقههم او عدم صحة ما وصل اليهم من المفاهيم الخاطئة، من مصادر غير متمكنة من المعرفة، وغير مأذونة، اي ان مرجعياتهم ليسوا من الراسخين في العلم.

 

وعلى النقيض من ذلك نجد شبابا ورجالا ونساء يذهبون الى الطرف الآخر في سلوكهم، فيتساهلون ويترخصون ويتغافلون، حتى تتسع دائرة المخالفات وتبعد المسافات عن حد الإعتدال، وقد تغويهم شياطين الإنس والجن، فتقودهم الى درجة المروق من حظيرة الدين ذاتها، وهم يظنون انهم فقط يبتعدون عن التزمت والتطرف والمغالاة،

وأكتفي بهذا القدر، حتى لا تــَملّوا، وآمل ان تستوعبوا هذه الفكرة وتوسعوا النظرة والعبرة، فإن فهمها يفتح ابوابا كثيرة للتدبر والفهم واتساع دائرة المعرفة بقوانين، وبخالق الحياة.

ولا تبخلوا علينا بالدعاء.

 

بقلم / عبدالحميد ملهي