في سبتمبر 1962 تمت الإطاحة بالنظام الملكي الإمامي في صنعاء، وبدأ عهد جمهوري تخلله كثير من الأحداث والانقلابات حتى استقر الحكم بيد الرئيس السابق صالح.
وتعايشت ولايته الطويلة جداً مع أحداث ومتغيرات داخلية وخارجية، لكن اليمن ظل منكشفاً على مخاطر كبيرة لعوامل عدة، أهمها غياب الدولة المدنية ومؤسساتها القوية، وغياب الضامن الحقيقي للاستقرار وآلية تداول السلطة بشكل سلمي، حتى جاءت تداعيات «الربيع اليمني» لتقذف في أعقاب «مبادرة الخليج» في سبتمبر آخر عام 2014، أطاح بالدولة والجمهورية وفتح الأبواب أمام نزاعات مختلفة ما تزال أحداثها تنذر بالكثير.
سبتمبر إذن بين أزمنة مختلفة عاود فعله على العاصمة اليمنية، مقدماً نماذج مثيرة للأحداث الكبرى، خاصة إذا ما أضفنا توقعات الجديد لهذا العام الذي قد يُنذر بتبدل رئيس، يتركز في ما يمكن تسميته «تحرير صنعاء»، والذي إن حدث سينعكس ليس فقط على الداخل اليمني، بل سيمتد تأثيره إلى مناطق مختلفة في الشرق الأوسط.. وسيشكل بداية حقيقية للتحالف العربي، لأن يصدّر أول تجاربه التاريخية التضامنية نموذجاً ناجحاً للتدخل العربي لحسم الصراعات في أي بلد شقيق. كما أنه سيظهر على تجارب الغرب التي خلفت تدخلاته كثيراً من المآسي والتعقيدات الهائلة.
الاقتراب من صنعاء ربما سيكون مؤشرا معنويا للاقتراب من عواصم أخرى ما تزال على عتبة مجاهيل كارثية ولو بأشكال مختلفة، وإذا ما تم تسجيل نصر مؤزر وحقيقي على أبواب العاصمة اليمنية، وتمت استعادة دورة الحياة فيها بشكل طبيعي، فإن العالم من شرقه إلى غربه سوف يسجل تاريخاً جديداً في الشرق الأوسط شاء أم أبى، ويعتبرها بادرة تاريخية تدشن تغييرا استراتيجيا في نظرة وسياسات الدول الكبرى تجاه المنطقة العربية، التي تعتبر من وجهة نظر غربية، حتى اللحظة، مركز صراعات أرهق العالم وصدّر له الشقاء، وظل عالة على التدخلات الخارجية.. التي في الحقيقة لم تحمل يوماً أي حلول للمنطقة بقدر ما أضافت إلى أزماتها تعقيدات ومآسي لا حصر لها، بل استنزفت قدراتها وطاقاتها مادياً ومعنوياً، ولم تحقق سوى إطالة الأزمات لتمسك بخيوطها وتوظفها على مر الأزمان وتقلبات المراحل وفقاً للحاجة.
وبغض النظر عن طبيعة الصراع والاستحقاقات السياسية، إلا أن دلالات استعادة صنعاء تفوق معانيها الداخلية، خاصة إذا تم إرساء سلام دائم وأنتج اتفاقات استراتيجية تضمن حل المعضلات الداخلية، من دون أن تترك بقعا سوداء تعيد تنشيط فوهات البواريد ودورات الدم في المستقبل.
وعلى شرف المصادفة، فإن «القمر الدموي» الذي طل في آخر سبتمبر مضى (28 سبتمبر 2015) لا يحمل، مع سابقاته من الأقمار الحمراء وما رافقها من إسقاطات فلكية على احداث مُتخيلة، أي دلالات خارج مسبباته الطبيعية. فكثافة الاحداث وانشغال العالم بها أثارت تهويمات مختلفة حول بعض الظواهر الكونية الفريدة، وتمترس رجال الدين خلف السياق اللاهوتي لتفسيراتهم المثيرة للجدل وجرى توظيف الظواهر تلك في جعل مصادفات سابقة أدلة على نبوءات مقبلة حول أحداث مزلزلة في الشرق الأوسط. ليس باعتباره المفاعل الأساسي لحراك التغيير الأعنف في الوقت الحاضر على ظهر كوكب الأرض وحسب، وإنما باعتباره مهد الديانات السماوية وموئل الغموض التاريخي الذي يخفي في باطنه رقائق تحوي شيفرات البيان رقم واحد حول ظهور المسيح والمهدي المنتظر. وهذا الاخير هو وقود المد العقائدي لأنصار الله اليمنيين، باعتبار اليمن أهم ركن بين الجغرافيات الرئيسة في هذا الشرق، تناوبت عليه الحضارات والديانات والطوائف واصبح في حقيقة الامر، وبعيدا عن النبوءات تلك، البقعة المتقدة التي تُعد منطلقاً لتغييرات جسام في الجزيرة العربية، إن لم يتم السيطرة على جموحها.
سبتمبر صنعاء ليس له أي نصيب من كل ذلك لأنه يحمل مصادفات حقيقية، فسبتمبر المقبل هذا العام يتوقعه منظّرون في القراءات الاستراتيجية لمسار السلم والحرب في اليمن بأنه سيكون سبتمبر جديدا بدورته الصادمة وسيحمل مشروع حسم الصراعات لصالح استعادة الدولة اليمنية، إيذاناً بفتح مسارات سياسية ربما تكون مختلفة عن سابقاتها، لأنها سوف تنطلق من بدايات جديدة، وتحمل معها خريطة واضحة للتوازنات، وتفاهمات حول شكل الدولة وآفاقها المستقبلية. ومعها ستظهر بالتأكيد قدرات المنطقة، خاصة دول الجوار على خلق بيئة سياسية قابلة للحياة وإقناع المجتمع الدولي بأن القوى الإقليمية جديرة بأن تصنع المبادرة، من دون الحاجة إلى إملاءات الدول الكبرى بصورها المباشرة أو من خلال المنظمة الدولية.
لا أحد بالطبع يمتلك المعرفة الكاملة بما ستحمله الأيام والأسابيع المقبلة، لكن هناك مؤشرات عديدة ليس أقلها تعثر مشاورات السلام، والتذمر الداخلي والإقليمي من أداء المبعوث الأممي، تزامناً مع استعدادات عسكرية وسياسية وإعلامية تمهد لحدث كبير قد يتمثل في الزحف نحو العاصمة اليمنية صنعاء.
ومن زاوية معاكسة فإن دول التحالف، إن صحت تلك التوقعات، ستضع نفسها أمام تحد كبير، لأن الحسم العسكري يتطلب قوات تختلف في الحجم والكفاءة عن تلك التي راوحت فترة طويلة على خطوط التماس، ويتطلب جهدا سياسيا ودبلوماسيا مكثفا لكسب تأييد المجتمع الدولي لدعم المعركة الفاصلة، كما أنه يتطلب قدرات استثنائية لتجنب إطالة الحرب وتقليص الكلفة البشرية إلى أدنى حد، إضافة إلى الحفاظ على العاصمة والمدن الأخرى من فوضى المراحل التالية.
كل ذلك يتطلب خططا شاملة ومتوازية وموارد ضخمة وجهودا استثنائية لتقليل المخاطر. فهل سيكون سبتمبر صنعاء على أرض الحقيقة مثلما يتوقعه الناس في هذه المنطقة؟ أم سيكون من نبوءات القمر الدموي لصيقاً بأحداث تتناسل في جغرافيا الشرق الأوسط بمقاسات تفسيرات العرافين وتبدد معها أحلام التضامن العربي في صيانة بلدان أخرى وإنقاذها من مآلات كارثية؟
كل تلك التساؤلات تجعل من صنعاء مفترقاً مهماً في تاريخ المنطقة.