بعد فشل الوحدة العربية الأولى في العصر الحديث، بين مصر وسوريا، ضربت الوطن العربي سلسلة من الانقلابات العسكرية، بدأت في العراق بقيادة عبد الكريم قاسم، وعبد السلام عارف، عام 1959م، ثم في اليمن بقيادة عبدالله السلال عام 1962م، وانتعشت الآمال العربية من جديد، في قيام نهضة عربية جديدة، تخلص الأمة من معاناتها ،ثم جاءت النكسة العربية الكبرى في حزيران 1967م، وهزمت ثلاث دول عربية على رأسها مصر، التي استنزفت في حرب اليمن طوال سبع سنوات.
وشكل استقلال الجنوب العربي عام 1967م، نقطة مضيئة في ظلام دامس، ثم قامت انقلابات عسكرية في ليبيا والسودان عام 1969م، وخدرت تلك الأنظمة الجديدة، الجماهير العربية بشعاراتها البراقة بالوحدة والحرية والاشتراكية، وفي اليمن الشمالي، أطيح بالسلال في 5 نوفمبر عام ،1967م وعادت المؤسسة الدينية التي تزعمها عبدالرحمن الإرياني ،والتي كانت مستظلة في عهد الإمامة، وتحمل نفس أفكارها التقليدية، وتحالفت مع القوى القبلية المتخلفة، وأحكمت سيطرتها على مؤسستي الجيش والأمن، ومفاصل الدولة، وبدأت بتصفية وطرد الكفاءات والعناصر الوطنية، من عامة الشعب اليمني، التي قامت الثورة على أكتافها ،وفي عام 1974م حاول المقدم إبراهيم الحمدي تصحيح مسار ثورة سبتمبر، واستعادة زخمها الثوري الذي بدأ يتراجع وينكمش في ظل التمدد القبلي !!
وفي الجنوب، توسعت أعمال القمع والاغتيالات والتأميمات، وازدهرت السجون والمعتقلات، والملاحقات حتى شرد أكثر من ثلث سكان الجنوب خارج الوطن، إلى الشمال ودول الخليج، وكافة أصقاع الأرض ،وكل ذلك تحت شعار "قيام اليمن الديمقراطي الموحد وتحقيق الاشتراكية العلمية".!!!
وكان الشعب اليمني ،يطمح للخروج من أزماته، لتحقيق حلم الوحدة اليمنية، التي سعى لها المقدم إبراهيم الحمدي مخلصا، ولكنه اغتيل عشية ذهابه إلى عدن لتحقيق حلمه الذي وئد معه في اكتوبرعام 1977م !!
وتوالت سلسلة الصراعات في الجنوب بين الرفاق ،وقاموا بتصفية سالم ربيع وجناحه بالكامل يونيو 1978م ، وفي عام 1986م انفجرت أحداث 13 يناير، وكلها تحمل نفس الشعارات البراقة، وعلى رأسها الوحدة اليمنية، وأدت تلك الأحداث إلى كوارث حقيقية في الجنوب ،وانهيار في منظومة الحكم، وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار المعسكر الاشتراكي، حاول علي سالم البيض تصدير أزماته إلى شمال اليمن، وكان يسكنه الوهم بإمكانية السيطرة على الشمال، وإسقاط نظام الحكم التقليدي المتخلف فيه، تحت نفس الشعارات الثورية التي كان يرفعها الحزب الاشتراكي اليمني، معتمدا على خلاياه في اليمن الأسفل وبعض العناصر الزيدية، التي تقمصت شعاراته وروعت المواطنين الشماليين في اليمن الأسفل قتلا وذبحا!!!.
وفي عام 1990م وقعت اتفاقية الوحدة بين طرفين متناقضين كل منهما يتربص بالآخر ويحاول تصدير أزماته وتجاربه لشريكه.
وكان الخلل واضحا في الشمال والجنوب في منظومة الحكم ،ففي الجنوب لم يخرج الحزب الاشتراكي من عباءته الثورية، وشعاراته المتطرفة، التي سقطت في مهدها بل استمر في خطه المعادي لجيرانه في دول الخليج، وشن حروبه الطبقية على شعب الجنوب، وفشل الحزب الاشتراكي بالتصالح مع نفسه ومع شعبه داخل وخارج الوطن وتجاهل الجميع وهم:
- اللاجئون الجنوبيون الذين تم طردهم خلال حكمه، مثل حكام الجنوب السابقين، والوزراء ،وقادة الأحزاب السياسية، ورجال الفكر والثقافة، وضباط الجيش والأمن، والتجار والملاك، ورجال الأعمال الموسرين في الخليج، والمنظمات الوطنية، والعناصر القبلية الفاعلة، ورجال الدين والحل والعقد، وعشرات الشرائح الاجتماعية من مختلف فئات المجتمع.!!!
ولم يحاول الحزب الاشتراكي التصالح مع نفسه ،او هذه العناصر، أو حتى اخذ رأيها فيما هو ذاهب إليه، ولم يكلف نفسه حتى بالاستنارة برأي دول الإقليم، وعلى رأسها الشقيقة الكبرى المملكة العربية السعودية، التي نصحته على لسان وزير خارجيتها المرحوم الأمير سعود الفيصل ،الذي حذرها من الاندفاع نحو الوحدة الاندماجية ونصح الرفاق بإبقاء الباب مواربا ،حتى يمكن الخروج منه متى شاءوا، وذلك من خلال وحدة كونفيدرالية، ولكن الرفاق أصروا على اختطاف الجنوب وشعبه ،والزج به في وحدة اندماجية ،مع منظومة حكم معقدة متخلفة تحكمها عناصر وقوى قبلية متنفذة، ومتحالفة مع الإخوان المسلمين، كغطاء ديني ممثلة بحزب الإصلاح، الذي احتضن العناصر الإرهابية العائدة من أفغانستان، ورأت في الجنوب لقمة سائغة ووكراً حصيناً تحتمي فيه!!!
إذن بالنتيجة كان كل طرف يتربص بالطرف الآخر، والشعب في الشمال والجنوب ،لا ناقة له ولا جمل في تلك الصفقة او الوحدة المزعومة، التي هيمن عليها أصحاب النفوذ، ومع ذلك خرج بعفوية يصفق ويهتف لها، وبنا آماله وأحلامه عليها، في حين أنها كانت وحدة منظومة متنفذة، معقدة، ومتناقضة الرؤى والأهداف ،لا يهمها الشعب اليمني أو الارتقاء به، أو حل أزماته بل كانت تسعى من اجل هيمنتها وبسط نفوذها.
((وللحديث بقية وهو حديث ذو شجون ))
*- للاطلاع على الحلقة الأولى : اضغــــط هنــا