منذ أن وعينا على هذه الدنيا وجيلنا والأجيال التي سبقتنا من الرعيل الأول، ونحن نتنفس عبير الوحدة العربية، حلم كل مواطن عربي، وبنينا آمالا عريضة ،وحلمنا بقيم سامية، كنا نطمح أن تتحقق من خلال وحدتنا في الوطن العربي الكبير، فنحن من أصل واحد وننطق بلسان واحد، وكنا نتخذ من قول الحق سبحانه وتعالى:
((وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103))). آل عمران.
وقد أنزلت هذه الآية الكريمة، لتشخيص حالة التمزق والشتات والجهل ،التي كانت تضرب جزيرة العرب، وتصف حالة الفرقة والتناحر بين الأعراب فيها، قبل مجيء الإسلام ،ولتبين لهم قيم التمسك بحبل الله والإيمان به، وتنهى عن الفرقة والاختلاف، وتعمق المعاني السامية في النفس البشرية، بتأليف القلوب والحث على وحدة الكلمة ووحدة الرأي والمصير، على طريق الحق والهداية الى دين الإسلام.
فكانت للمسلمين عزاً ونصراً ،عندما تمسكوا بها وطبقوها في فجر الإسلام وصدره، ففتحوا الدنيا ودانت لهم الأمم ،عندما توحد رأيهم وتألفت قلوبهم في حب الله ورسوله ورسالته الخالدة دين الإسلام.
كنا في ميعة الصبا والشباب نردد في الطابور الصباحي النشيد الحلم لكل عربي الذي تقول كلماته:
بلادُ العُربِ أوطاني منَ الشّـامِ لبغدان
ومن نجدٍ إلى يَمَـــــــــنٍ إلى مِصـرَ فتطوانِ
فلا حدٌّ يباعدُنا ولا دينٌ يفرّقنا لسان الضَّادِ يجمعُنا بغسَّانٍ وعدنانِ
نشأنا على هذه الكلمات والترانيم، التي غرسها المعلمون والآباء في قلوبنا ونفوسنا، حتى كنا نحلم بوحدة هذه الأمة، صاحبة الدين الواحد واللغة الواحدة، ورغم الكيانات القطرية التي رسمها الاستعمار، وجعلنا دول صغيرة مقسمة ومختلفة، إلا أن الشعوب العربية كانت تتقاطع أحلامها في تاريخها المشترك ودينها الإسلامي العظيم ولغتها الواحدة، وعندما قامت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، بالعدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، خرج جيل تلك الأيام يقاتل المستعمرين الغزاة، واختلط الدم العربي في بور سعيد، وقناة السويس،في معركة الكرامة، وعمت المظاهرات كافة أرجاء الوطن العربي الكبير، من المحيط إلى الخليج ،مستنكرة العدوان الغاشم وبانكساره ودحره ،صعد نجم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كمخلص للأمة العربية، من شتاتها وفرقتها وتمزقها، وكان رمزا من أقوى رموز الأمة العربية، وسرعان ما طالبت سوريا بالوحدة مع مصر، والتي أعلنت في 22 فبراير عام 1958م ،وكان الزعيمان شكري القوتلي وجمال عبد الناصر يمثلان طموحات العرب في الوحدة والحرية في تلك الأيام الغابرة، ولكن ما الذي حدث بعد ذلك؟
بدأت الدولة الوليدة (الجمهورية العربية المتحدة) تتصدع بفعل الممارسات الخاطئة من قبل الضباط المصريين وأعداء الوحدة من السوريين الذين فقدوا مصالحهم وهيمنتهم على الاقتصاد السوري، فكان الانقلاب العسكري والإنفصال، الذي قام به مأمون الكزبري ،في 28 سبتمبر 1961م.وتكشفت الحقائق المفجعة للإنفصال ومن أهمها:
- قيام عبد الناصر بتأميم البنوك الخاصة والمعامل والشركات الصناعية الكبرى للغزل والنسيج والاسمنت وغيرها.
- قدوم الكثير من العمالة المصرية إلى سوريا واختلال توازن العمالة.
- السياسات الاستبدادية ساهمت في تذمر السوريين الذين كانوا يتباهوا بالتعددية السياسية التي ألغاها عبد الناصر بعد الوحدة.
- قيام جهاز المخابرات بالعمل على إذكاء نار الفرقة بين المواطنين.
- عدم التواصل في الحدود البرية بين القطرين ووجود الكيان الإسرائيلي المتربص بالوحدة بينهما.
هذا ولم تكن هذه الأسباب معروفة لدى البسطاء من العرب وكذلك لدى الأجيال الحالمة والناشئة مثلنا في تلك الأيام ورغم ذلك كله بقيت صور زعماء العرب تتصدر مجالسنا وصوالين البيوت العربية من المحيط إلى الخليج، ولم نفطن لتلك التحولات الجذرية وعزونا ذلك إلى العسكر وانقلاباتهم المتتابعة التي انهمرت على الوطن العربي كالمطر وبدأت المفاهيم تتغير والمبادئ تتراجع والضمائر تتبدل ومصالح الكبار تكبر وأحلام البسطاء تنهار حتى أصبحت في مهب الريح.
وللحديث بقية وهو ذو شجون.