بريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي ـ الأبعاد والتداعيات

2016-06-24 23:14

 

لست عضوا في حزب العمال البريطاني، بل لست مواطنا بريطانيا، ولا أفكر أن أكون كذلك، فلست سوى مقيم مؤقت في هذا البلد وهذا يكفيني وزيادة، لكن القانون البريطاني يمنح المقيم في المملكة المتحدة حق المشاركة في الحياة السياسية بما فيها الانتخابات والاستفتاءات.

منذ أيام تسلمت رسالة من جرمي كوربين رئيس حزب العمال البريطاني يشرح لي فيها أهمية التصويت لصالح بقاء بريطانيا في عضوية الاتحاد الأوروبي ويقدم لي العديد من إيجابيات هذه العضوية ويحذر من مخاطر الخروج من الاتحاد، وطوال الأيام الماضية استمعت إلى خطابات رئيس الوزراء ديفيد كاميرون، وهو يشرح معاني وأبعاد العضوية وماذا تقدم من فوائد للحكومة البريطانية وما هي مخاطر الخروج من الاتحاد، ومثله فعل حزب الديمقراطيين الأحرار، . . . إنها واحدة من المرات النادرة التي تتفق فيها أقوى الأحزاب السياسية وأكثرها تأثيرا في الحياة السياسية البريطانية، فقد كانت كل الاستفتاءات والانتخابات السابقة تقوم على التنافس بين هذه الأحزاب وكان طبيعيا أن يفوز أحدها أو تحالف بعضها، في كل العمليات الانتخابية السابقة.

بيد أن نتائج هذه المرة جاءت لغير صالح تلك الأحزاب جميعها، رغم اتحادها واتفاقها في الموقف من القضية موضوع الاستفتاء، وهي البقاء في عضوية الاتحاد الأوروبي ، فلقد صوت لصالح الخروج من عضوية الاتحاد أكثر من 51% من مجموع الناخبين البريطانيين المشاركين في عملية الاستفتاء، مقابل أقل من 49% صوتوا لصالح البقاء في عضوية الاتحاد، وهذه النتيجة عبرت عن الغالبية وتعهد رئيس الوزراء كاميرون بتقديم استقالته من رئاسة الحكومة لعجزه عن إقناع الشعب في تبني سياساته ، ولم يذهب لاتهام المتآمرين وعملاء الخارج بتدبير مكيدة ضده أو ضد الشعب البريطاني، كما يفعل حكامنا العرب عندما يفشلون في الحصول على احترام صوت الشعب (هذا إن طلبوا رأيه أصلا)، وقال السيد كاميرون “أن هذه هي إرادة الشعب ” (يعني الأغلبية الضئلية هي التعبير عن إرادة الشعب، حتى لو كان المخالفين لها أكثر من 48% من مجموع المقترعين) وقال كاميرون “علي أن أحترم هذه الإرادة”.

 

حزب الاستقلال البريطاني المعروف اختصارا بــ (UKIP) كان المبتهج الوحيد في هذه المناسبة وهذا الحزب معروف عنه الميول اليميني المتطرف، خصوصا في موقفه من الأقليات، ومن الهجرة ومن الاتحاد الأوروبي، لكن القراءة المتأنية لهذه النتائج تستدعي تسليط الضوء على مجموعة من الملابسات المتصلة بهذه القضية، وهذه يمكن تناولها من خلال ما يلي:

  1. إن الموقف في بريطانيا من العضوية أو عدم العضوية في الاتحاد الأوروبي ليس موقفا حزبيا صرفا، فحزب الاستقلال هو الحزب الوحيد الذي يتبنى موقفا موحدا يتمثل بالدعوة إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي، بينما هناك الكثير من القيادات البارزة في بعض الأحزاب وعلى الخصوص في حزب المحافظين (مثل عمدة لندن السابق) تدعو منذ وقت مبكر إلى الخروج من عضوية الاتحاد معتقدة أن المواطن البريطاني سيكسب كثيرا في حالة خروج بريطانيا خصوصا من حيث تحسين فرص العمل وتقليص البطالة وزيادة الأجور وتحسين الخدمات، نظرا للمنافسة الشديدة التي تمثلها القوى العاملة المهاجرة من بلدان الشرق الأوروربي أعضاء الاتحاد، والتي تتقاضى إجورا منخفظة وتحصل على كل حقوق الرعاية الصحية والتعليمية والإعانات الاجتماعية وإعانات السكن للعاطلين عن العمل، فضلا عن رعاية الأطفال حيث القادمين من شرق أوروبا هم من ذوي الأطفال الكثر (4-6) إطفال بينما قليلا ما تجد الأسر البريطانية تنجب أكثر من طفلين وفي الغالب الأعم طفلا واحدا.

 

2. من السابق لأوانه استننتاج التداعيات الداخلية بعيدة المدى التي ستترتب على نتيجة الاقتراع، لكن التداعيات المباشرة قد بدأت منذ اليوم الأول بعد طلوع النتيجة وتتمثل في الآتي:

أ‌. في اليوم الأول للاقتراع فقد الجنيه الاسترليني (العملة البريطانية) 10% من قيمته وهو ما يعني انعكاس ذلك على الحياة المعيشية للمواطنين البريطانيين وانخفاض في القيمة الشرائية للجنيه، وبمقابل العملات العالمية الأخرى ومنها اليورو.

ب‌. عادت الدعوة لانفصال سكتلندا عن المملكة المتحدة من جديد، وجاءت هذه المرة الدعوة على لسان رئيسة الوزراء في سكتلندا، والتحقت بها إيرلندا الشمالية التي دعا بعض زعمائها السياسيين إلى الانفصال عن المملكة المتحدة الالتحاق بجمهورية إيرلندا التي تحتفظ بعضويتها في الاتحاد، وتجدر الإشارة إلى أن غالبية المقترعين في كل من سكتلندا وأيرلندا قد صوتوا لصالح البقاء في الاتحاد بينما صوت غالبيية المقترعين في إنجلترا وويلز لصالح الخروج من عضوية الاتحاد، وبالتالي ضاعت أصوات المقترعين السكتلنديين والأيرلنديين بين الغالبين الإنجليزية والويلزية.

ت‌. السؤال الذي يطرح نفسه هو هل يمكن أن تشكل هذه النتيجة جنوحا نحو اليمين وبالتالي تمهيد الأرضية لحزب الــ (UKIP) اليميني لحسم نتيجة الاقتراعات القادمة، ذلك ما لا يمكن التكهن به فكما قلنا إن الاقتراع لم يكن حزبيا بقدر ما كان تعبيرا عن مواقف شخصية للناخبين، فالأغلبية التي اقترعت لصالح حزب المحافظين في آخر انتخابات 2015م هي نفسها التي اقترعت ضده عند الاستفتاء على عضوية الاتحاد الأوروبي، ويعيارة أخرى فإنه في الدول الديمقراطية الغربية ومنها بريطانيا لا يوجد ناخبون حزبيون محجوزون سلفا ومبرمجون على ما يطلب منهم الحزب، بل يوجد مواطنون أحرار يعطون أصواتهم للسياسة التي يرون أنها تخدم مصالحهم وترفع من معيشتهم وتوفر لهم المزيد من الرفاهية والاستقرار.

 

3. على صعيد التداعيات الخارجية شكلت الننتيجة صدمة للعديد من الأوساط السياسية في بلدان الاتحاد وخصوصا في فرنسا وألمانيا وهما اللتان كانتا تشكلان مع بريطانيا ثلاثي أركان الهرم الأوروبي وعمود اقتصاديات الاتحاد، لذلك بدأنا نسمع أصوات الأحزاب اليمينية في فرنسا وهولندا وبلدان أخرى تدعو إلى إجراء استفتاءات مماثلة لما جرى في بريطانيا ، وبالمقابل سمعنا دعوات فرنسية وألمانية إلى الإسراع في اتخاذ عقوبات ضد أي دولة يمكن أن تنوي الخروج من الاتحاد، مع العلم أن بقية الدول، باستثناء الدول الثلاث المذكورة وربما السويد والدانيمارك وإيطاليا، هي دول مستفيدة من العضوية ومن المستبعد أن تفكر أي منها في الخروج من الاتحاد.

 

وأخيرا فإن الحياة السياسية في بريطانيا تقف أمام مفترق طرق فأنصار الخروج من الاتحاد الذين يبتهجون بالنتيجة يبشرون المواطن البريطاني بمزيد من الرفاهية وفرص العمل وقليل من البطالة والعنف والإرهاب، بينما يحذر أنصار البقاء في عضوية الاتحاد من تداعيات اقتصادية قد تتمثل في ارتفاع البطالة (حيث يعمل 3 مليون بريطاني في قطاع التجارة مع بلدان الاتحاد) فضلا عن حصول هزة اقتصادية وتقلص العائدات من تلك التجارة وربما حصول كساد اقتصادي، وتعرض بريطانيا لعزلة لم تعرفها منذ خمسينات القرن الماضي.

وعموما تظل هذه عبارة عن تكهنات يتوقف البرهان على هذا أو ذاك منها على ما ستأتي به الأيام والشهور والسنوات القادمة.