السياسة ملعب كبير لا حدود له، ولا يجيد اللعب فيه من ترعرع على الثوابت المعنوية والدوجمائيات السياسية والنصوص الأيديولوجية المقروءة من الكتب الجاهزة.
تأثرت ثقافة النخب السياسية في "جمهورية جنوب اليمن"، وكذلك المستزادة والناهلة منها، عملياً بكلاسيكيات "الطلائع الثورية" في زمن الستينات، والمنطوية على مفاهيم أن السياسة إدارةٌ سلطوية لمبادئ الأيديولوجيا وليست إدارة المصالح بمفهوم عصري، فتدربت حواس المجتمع الجنوبي على هضم الخطاب الفولاذي الحاد وبيانات القيادة العامة ثم المكتب السياسي الذي كان يبتلع صراعاته بمرطبات الدم. ذلك التاريخ أثَّر إلى حد كبير في سلوكيات النخب الجنوبية من الناحية السياسية بحيث ثبت الجنوبيون في مكانهم كمقاتلين حقيقيين ولكن مع هيمنة اليباس الشامل في أي إبداع سياسي، ودون دراية لكيفية اللعب في المساحات المعقدة التي تتطلب مهارات استثنائية، وهذا بلاءٌ ماحق.
الجنوب قاتل بشكل لا مثيل له في أي مكان، بل بشكل ميَّزه عن مناطق الصراع في الساحة العربية وبدوافع معروفه، ولم يكن جاهز للخطوة اللاحقة وهي عادة تاريخية عنده وثابر على الوفاء لها، كما أنه لم يخلق معادلة براجماتية ولو نسبياً، تضمن التنسيق والتعاون الموضوعي مع دول التحالف و"السلطة الشرعية الانتقالية"، وفق أولويات الضرورة، لكن مع الحذر من الانجرار الطائع إلى توظيف طاقات الجنوب في الصراعات الكبيرة بشكل مجرد عن حسابات مصلحة الجنوب وخدمة أهدافه، وهكذا يبدو أن الجنوب بعد هذه القيامة الدنيوية المهولة ما يزال في المربع "زيرووو" عملياً .
أراد الجنوب أن يتحرر من تحالف صالح/ الحوثي ومن كل القوى التي ذبحته على مدى ربع قرن بإسم الوحدة المغدورة، فتحرر من الوجود العسكري كخطوة أساسية، لأن ذلك ما أراده هو لذاته وليس من أجل أي أحد، و"الشرعية" بالنسبة له هي الأبعد من أن تكون سبباً ودافعاً لكل تلك التضحيات والدماء، وهذا يجب أن يكون عنوان التاريخ الحقيقي لحرب الدفاع عن الجنوب قبل أن يتم تلطيخه من قبل الرواة والأحزاب... ويسعى الجنوب في الوقت الحاضر لأن يدافع عن وجوده من خطر الإرهاب والفوضى، دون أدنى دعم ومع هذا يقاوم بصبر ويقدم تضحيات يومية بعد أن تُرك وحيداً مغدوراً به، لأنه يراد له أن يبقى معلَّق دون أمن ودون حياة حتى "تحرير صنعاء" ليسلم نفسه لها مرة أخرى، وهذا من عجب الدنيا على شعب تعود على العجائب!.
صنعاء في أحسن الأحوال "ستتحرر" جزئياً ( حكاية تحرير صنعاء مفهوم لوغاريتمي عويص) بصفقة سياسية مهما كان لونها وشكلها الَّا انها تبقى صفقة شمالية يمنية ويظل الجنوب مرة أخرى عالقاً بين تفاصيل تفاهمات قواها الدينية والقبلية مجتمعة وهي لا ترحم أحد. ذلك الذي يستفز الضمائر وتتفجر لأجله الأدمغة! كيف يستثمرون طموح شعب للحرية في حرب إقليمية ثم يتركونه فريسة للارهاب يتمرّغ في أوحال الخوف والموت اليومي لكي يعود مستسلماً ضعيفاً مرة أخرى للوحدة القسرية مع أسياد صنعاء الجدد/ القدامى بنفس المفاهيم القاتلة.
الجنوب بالنسبة للإقليم ساحة محدودة في حرب إقليمية واسعة وخطرة، والجنوبيون لم يدركوا أنهم بدون قواهم المنظمة والموحدة على الصعيد العسكري والسياسي ليسوا إلا أداة وحسب، فالجنوب سيظل مهملاً مالم ينتبه أهله لمصائره، وهذا ما نلاحظه اليوم من الواقع البائس للمقاومة الجنوبية التي تسعى دون جدوى لدمجها بالجيش الوطني (المنتظر)، والتي إن طال الزمن عليها ستتفرق الى مجموعات مسلحة مخترَقة ربما ستخدم جهات متضاربة.
من الطبيعي أن الجنوبيين مدركون حساسية الأهداف السياسية الخاصة بالجنوب في مرحلة الحروب المتفرقة الآن، ويدركون أيضاً صعوبة اختبار نوايا الإقليم في الراهن العنيف وفي ظل فشلهم في خلق كيان سياسي مؤتلف، الَّا أن الجنوب من حقه بل ومن واجبه، وهو أضعف الإيمان، أن يتحدث بصوت مسموع مطالباً بالعمل من أجل تنظيم مقاومته ودعمه ميدانياً بكل الوسائل لمكافحة الإرهاب والفوضى واستعادة الأمن، قبل أن تتطور أوضاع داخل الجنوب يصعب تداركها بحيث تكون سبباً مهماً للتدخل الدولي متعدد الجنسيات، ولا ننسى بأن تمدد تنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة، وما يصاحبهما من فوضى، مهما كانت هويتهما وتبعيتهما، سيكون سبب كاف لتدخّل العالم.. وروسيا وإيران على الناصية تتوثبان عند أول إشارة جادة لأن الاقليم العربي المستعر عبارة عن رقعة شطرنج واحدة، ولا أحد يستبعد أي شيء في هذا الوضع المخيف.
المطلوب من المفكرين السعوديين والخليجيين والذين يبذلون أقلامهم في كتابات نخبوية كسولة ونمطية أن يلتفتوا الى الإخفاقات التي ترافق سياسات دول التحالف، منها ترك الجنوب دون دعم حقيقي لمواجهة الإرهاب، وهو الطامة الكبرى الرائجة في هذا العصر، لأن الناس في الأخير ستضيق ذراعاً بالوضع وستأخذ وجهات مختلفة قد تقلب الطاولة تماماً.
والمطلوب من الساسة والمفكرين والكتاب في الجنوب ذاته أن لا يكونوا مثل ضاربي الطبل البلدي وحسب، لأن تنبيه دول التحالف إلى المخاطر والى معاناة شعب الجنوب واجب يسبق المديح اليومي لتلك الدول، الذي سخّرت له مساحات إعلامية واسعة، دون حسن الفِطن المرجوة في السياسة وفي الأوقات المفصلية.