يوم إن صدر قرار تعيين المحافظ الشهيد اللواء الركن جعفر محمد سعد محافظا لمحافظة عدن دعا كاتب هذه السطور عبر منشور على شبكة فيس بوك إلى التعاون مع المحافظ وتمكينه من تقديم شيء لهذه المحافظة ذات القيمة الرمزية والتاريخية والحضارية والثقافية.
تبوء مهمة محافظ في عدن أو أي محافظة جنوبية أو أي منصب حكومي ليس رحلة سياحية ممتعة بل إنه تحد لا يقدم عليه إلا أحد اثنين: أما شخص وصولي ، انتهازي باحث عن مصلحة مادية ومعنوية (وما أكثر هذا النوع من المتسابقين على الألقاب والمناصب) وإما انسان فدائي يقتنع بمواجهة الشدائد ومقاومة التحديات ومحاولة تقديم ما ينفع الناس، وقد كان الشهيد جعفر من هذا النوع من البشر كما يبدو من عمله خلال الشهرين المنصرمين حتى يوم استشهاده.
خمسة أشهر منذ إخراج غزاة الانقلاب من عدن والجنوب، وهذه الفترة قد تكون قصيرة في عمر الشعوب، لكنها في عمر الانتصارات كانت كافية لترتيب أوضاع المحافظة والإمساك بالملف الأمني وتثبيت الحياة التموينية وتقديم الخدمات الضرورية للمواطنين ليشعروا أن الانتصار عاد عليهم بقيمة مادية ملموسة ولم يقتصر على مجرد دحر الفيالق العسكرية مع الاستبقاء على كل مخلفات عهد الغزو (الأول والثاني) من فوضى وعبث وفساد وانفلات أمني ومتاجرة بمعاناة الناس وابتزازهم في حياتهم وأطفالهم وأمنهم ، ويعلم كل سكان عدن والمحافظات التي غادرها تحالف الحوافش أن أي تغيير لم تشهده تلك المحافظات إلا بتعيين مسؤولين لا يداومون وانتشار عصابات السلب والنهب والتقطع والإجرام والخطف والاستحواذ، وهو ما يعني بالنسبة للمواطن العادي إن الانتصار كأن لم يكن.
ربما كان الشهيد جعفر هو المسؤول الأكثر حضورا في حياة المواطنين في عدن سواء من خلال جولاته التفقدية الميدانية أو من خلال عقد اللقاءات والاجتماعات مع القيادات (المفترضة) في عدن أو الظهور عبر وسائل الإعلام، وفي كل مرة يظهر فيها في فعالية أو اجتماع أو زيارة كان يقدم نفسه أكثر وأكثر للمتربصين والقناصة الذين تمتلئ بهم عدن مثلما تمتلئ بالشرفاء والمخلصين من الضباط والجنود من ورجال الأمن والجيش المهملين في بيوتهم منذ العام ١٩٩٤م وكل ظهور للشهيد كان يعني اقتراب جماعات القتل منه، وتلك هي مفارقة المخاطرة في القبول بوظيفة حكومية في بلاد ليس فيها حكومة.
الشهيد جعفر اغتيل لأسباب كثيرة وليس لمجرد إنه محافظ عدن أو من أنصار الشرعية، الشهيد جعفر اغتيل لأنه أحد تلاميذ جيش جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، الذين ضربوا أروع الأمثال في البطولة والنزاهة والمهنية والإخلاص للوطن، اغتيل لأنه ينتمي إلى تربة عدن المعطرة بدماء الشهداء والمضمخة بنقاء المدنية وعبير التسامح والتعايش والتفاعل البناء، اغتيل لأنه لم يكن جبانا فيختبئ هناك بعيدا عن الأنظار أو بحثا عن الأمان في القصور والفنادق الفارهة.
هناك ظاهرة مستعصية على الفهم تقوم عليها المعادلة العسكرية والأمنية في عدن والجنوب، وعنصر الاستعصاء في هذه المعادلة يتمثل في الآتي: بلد تكتظ بمئات الآلاف من القادة العسكريين والجنود من ذوي الكفاءات والمهارات المختلفة مبعدين عن أعمالهم ويتسلمون مرتبات شهرية (وإن كانت تافهة) ولديهم الاستعداد للعمل ولو بنفس الرواتب التافهة خدمة للشرعية (المفترضة) لكن هذه الشرعية تستجلب آلاف الجنود والضباط من البلدان الشقيقة لتولي المهمات الأمنية والدفاعية، وفي نفس الوقت تنتشر عصابات القتل والسلب والنهب والبسط والاستحواذ كالنمل وتكتفي السلطة (الشرعية) بإصدار بيانات النعي لضحايا تلك العصابات وتشكيل لجان التقصي دون أن تكلف نفسها رسم خطة شاملة لاستئصال الإرهاب ومنع القتل والاستفادة من تلك المئات من آلاف الجنود والضباط العسكريين والأمنيين، والبرهان على أنها تمتلك مقومات الشرعية الحقيقية.
يبدو لي أن الصراع في اليمن (على أرض الجنوب) وهي الأرض الوحيدة التي تخضع لسيطرة السلطة (الشرعية) ليس صراعا بين الحق والباطل أو بين الشرعية والانقلاب، ولا حتى بين المقاومة والاحتلال، بل إنه صراع بين من يمتلك المهارة والذكاء وحسن التدبير والجرأة على اتخاذ القرار والعمل بعقلية ديناميكية فعالة واستراتيجية تحسب حسابات الخطوة العاشرة قبل الإقدام على الخطوة الأولى، وبين انعدام الكفاءة وغياب السياسات الاستراتيجية الشاملة والمعالجة بطريقة رد الفعل (الكسول، المحدود والعاجز) ومحدودية المهارة والشيخوخة الذهنية والتقنية والعشوائية المصحوبة بالمحاباة والاسترضاء وتكوين مراكز قوى مستقبلية من عناصر استنفد الدهر كل رصيدها المهني والأخلاقي وغدا تبوئها لهذا المنصب أو تلك المسؤلية مجرد نوع من الوجاهة ورفع المعنوية وتحسين الحالة المعيشية وزيادة المدخرات المالية والعينية أما الوطن وأبناؤه فهو آخر ما يخطر على بال هؤلاء وقد لا يخطر على بالهم أبدا.
رحم الله الشهيد اللواء الركن جعفر محمد سعد وأسكنه فسيح جناته، وألهم أهله وذويه وكل محبيه الصبر والسلوان، والخزي والعار للقتلة والمجرمين والمصلحيين والمتخاذلين
إنا لله وإنا إليه راجعون
__________________________
*. من صفحة الكاتب على شبكة التواصل الاجتماعي فيس بوك