سلسلة الانفجارات والاغتيالات المتعاقبة داخل عدن بعد طرد الحوثيين وقوات صالح على أيدي المقاومة الجنوبية والتحالف قد تشير إلى وجود مسرحية محبوكة السيناريو تديرها قوى سياسية محلية لا تريد الاستقرار لجنوب اليمن. عودة الجنوبيين لحكم أراضيهم بأنفسهم قد لا يشكل تهديداً فقط للحوثيين وصالح بل يشكل تهديداً لتيارات أخرى حزبية داخل عدن قد تتعرض مصالحها للخطر مستقبلاً. الأدوار الرئيسية المعلنة في هذه المسرحية المستمرة هم القاعدة وداعش ولكن يبدو أن أهدافهم في زعزعة الاستقرار تتوافق مع أهداف غيرهم ممن يقومون بالأدوار غير المعلنة ولا يريدون استمرار السلام داخل عدن.
تحركات عناصر من القاعدة وداعش داخل عدن يتم عبر جماعات صغيرة غير معروفة وحركات ارتجالية وضعيفة تعكس ضعف تواجدهم وقوتهم المحدودة سواء عبر تفجيرات عشوائية لا تحقق أهدافها أو عبر حوادث قتل عشوائية لعناصر المقاومة أو عبر توزيع منشورات تندد بالاختلاط في الجامعات وتدعو للصلاة داخل حرم الجامعة وغيره من الأوامر التي قد تعكس غياب أيديولوجية فكرية واضحة المعالم. ولا تعد مثل هذه الأوامر الأولى من نوعها في عدن حيث اعتاد السلفيون ومن يلقبون أنفسهم "بأهل السنة والجماعة" إعطاء مثل هذه الأوامر خلال العقود السابقة بعد قيام الوحدة في 1990 ، والتي تزامنت مع انتشار أتباع الشيخ مقبل الوادعي (مؤسس دار الحديث في دماج) داخل محافظة عدن.
البنيتان المجتمعية والثقافية لمدينة عدن لم تتأثر بهذه الموجات الدينية المتطرفة التي ظلت محصورة في نطاق جماعات لا يتجاوز عدد أفراد الواحدة منها ثلاثة أو أربعة أشخاص. وللأسف قد تم استغلال بعض هذه الجماعات خصوصاً وأن أغلب أعضائها من الشباب الغير متعلم والمعدم مالياً من قبل قوى سياسية محلية داخل اليمن لتحقيق مطامحها داخل عدن والجنوب بشكل عام.وهذه البؤر المتطرفة لا تزال تشكل توتر داخل الجنوب عموماً ولكنها مرفوضة بشكل كبير من الشارع الجنوبي وغريبة على النسيج الاجتماعي والثقافي للمجتمع في جنوب اليمن.
الترويج بوجود تنظيم قوي للقاعدة وآخر لداعش في عدن يعد مغالطة كبيرة ولكنها تحث على الاهتمام والتحليل العميق. هذا التزييف في الحقائق يتم استغلاله إعلامياً داخل عدن وعلى المستوى الدولي في محاولة لتغيير قواعد اللعبة العسكرية والسياسية. وأول من استخدمه هم الحوثيون أنفسهم لتبرير هجومهم على البيضاء ومأرب ثم تبرير احتلالهم لعدن وباقي محافظات الجنوب. ثم استخدمته أطراف دولية سواء تلك الداعمة للحوثيين أو غيرها من القوى الدولية المحايدة سياسياً في نزاع اليمن كسلاح هذه المرة موجه ضد التحالف للتقليل من قدراته وامكانياته في دحر الحوثيين وصالح وإرجاع الشرعية. وفي الفترة الأخيرة بدأت قوى حزبية داخل اليمن تروج لوجود قاعدة داخل عدن لإلغاء فكرة انفصال جنوب اليمن بشكل تام. ولكن يبدو أن الفشل كان حليف تلك الأطراف. فاللعبة غدت مكشوفة. وما تم فبركته داخل أبين خلال العقد الماضي لن يتحقق داخل عدن أو بقية المدن الجنوبية.
صراع النخب السياسية داخل اليمن لا ينحصر فقط على كراسي السلطة ومناطق النفوذ السياسي والموارد الاقتصادية ولكن يمتد أيضاً إلى اختيار العدو المناسب واختيار الصديق المناسب لتتمكن كل نخبة من الصمود والبقاء في ساحة اليمن السياسية لأطول وقت ممكن. والقاعدة في هذا الوقت قد تمثل العدو والصديق في نفس الوقت لبعض الأطراف السياسية التي لا تريد أن تخسر معركتها داخل عدن.
بعد ضربات متتالية للطائرات بدون طيار الأمريكية على رموز القاعدة في المكلا وحضرموت وشبوة في الفترة الماضية قد يبدو للمراقب من بعيد أن القاعدة قد ضعفت بل أن العديد من المسؤولين الأمنيين في إدارة أوباما يعتقدون أن ضرباتهم قد نجحت في إخماد نشاط القاعدة خصوصاً وأن تحركاتها في الفترة الأخيرة أصبحت محدودة وغير مرئية ولكن هي لم تختف فعلياً ولا تزال تتواجد كجماعات غير منظمة ومهزوزة ولم تتضح حتى الآن أهدافها من وراء التواجد الحالي داخل المكلا وخصوصاً وأن المظاهرات الأخيرة التي اجتاحت المكلا في 12 من شهر نوفمبر الماضي تحت شعارات لا للعنف لا للفوضى ولا للإرهاب أكدت ان القاعدة هي كيان مرفوض في أرض حضرموت التي تتميز بثقافتها الدينية المعتدلة والمتسامحة بعيدا عن الفكر الديني المتطرف.
فالقاعدة وإن تواجدت بأعداد بسيطة داخل المكلا لن تستطيع أن تصمد لفترة طويلة لأن الواقع بأكمله سيلفظها. ولكن تجاهل الوضع الأمني في حضرموت بشكل عام قد يفتح الباب على مصراعيه لعناصر فردية وجماعية لتنشر الفوضى داخل المحافظة وتثير الذعر بين الناس وهذا ما استغلته بالفعل مجموعة مسلحة نسبت نفسها لداعش في حادثة تفجير نقطتي تفتيش بالقرب من شبام في الفترة الماضية في محاولة فاشلة للإعلان عن تأسيس ولاية جديدة لداعش داخل وادي حضرموت.
استقرار الوضع السياسي داخل عدن والمكلا وبقية المحافظات الجنوبية يعتمد على شكل النخب السياسية التي ستحكم اليمن بعد انتهاء المواجهات العسكرية أو الدخول في أية مفاوضات سياسية محتملة.فالمعضلة القادمة لا تكمن في الانفصال أو الوحدة فقط ولكن تكمن في شكل النظام السياسي القادم الذي سيمكن المواطنين اليمنيين من العيش بسلام ويحكم الأمن والاستقرار في المنطقة. ويبدو أن شعارات مثل لا بديل عن الوحدة، ولا مخرجات سوى مخرجات الحوار الوطني لا تدفع إلى تهدئة الصراع بقدر ما تعمقه وتدفع إلى تصاعده.
الآلية السياسية للعمل السياسي داخل اليمن في حاجة شديدة لمراجعة دقيقة حتى يمكن التجهيز والاستعداد لعملية بناء الدولة حيث أن هناك أزمة نخب سياسية داخل اليمن برزت عبر تراكمات طويلة من العمل السياسي المعيوب الذي شابه المحسوبية والفساد وغياب التنظيم والقيادة الفردية. وقد أبرزت هذه الأزمة فقدان الثقة بين عناصر العمل السياسي وانتشار تهم التخوين والعمالة وسيطرة الوجوه القديمة وغياب التجديد لأجندة العمل السياسي. هذه الأزمة ستبرز بشكل جلي إلى السطح مع أية عملية مستقبلية لبناء المؤسسات داخل اليمن خصوصاً المؤسسة الحزبية التي تشكل العمود الفقري لعملية التحول الديمقراطي.
الوضع الحالي في عدن يدعو إلى أخذ الحيطة والحذر حيث يتصف بتصاعد اتهامات التخوين بين تيارات سياسية وعسكرية فيما يخص الوضع الأمني أو عرقلة الأمور المالية بتوقف عمل البنك المركزي وتأخر صرف المرتبات إضافة إلى ازدياد نقاط التفتيش الأمني مما قد يوحي بغياب الاستقراروسوف يقود لتعقيدات أكبر بعد الدخول في مرحلة مفاوضات سياسية مع الحوثيين وصالح. كما أن التحركات الأخيرة لأحزاب المشترك داخل عدن وخصوصاً حزب الإصلاح هي محاولة لإعادة بناء قوتهم من جديد عبر تأكيد تواجدهم داخل الجنوب وكسب الرضاء الشعبي بغرض تحقيق مكاسب سياسية مستقبلية.
هناك حاجة إلى التجديد داخل اليمن سواء في أجندة العمل السياسي وتحديد الأولويات وفق إرادة الشعب اليمني أو في نطاق القيادات السياسية التي تحتاج لضخ دماء جديدة من القيادات الشابة وأخيراً في آلية العمل السياسي لإفساح المجال لتداول السلطة بشكل سلمي.
يبدو أن المفاوضات القادمة في جنيف لا تواجه فقط إشكالية حل النزاع السياسي بين الفرقاء اليمنيين وانما تواجه بشكل أكبر إشكالية التحضير لمرحلة ما بعد انتهاء النزاع وخطوات البدء في بناء الدولة والتي تبدو من الآن مرحلة غائبة الملامح وملبدة بالغيوم السوداء.
*- بقلم د.هيفاءالمعشي
– مركز دبي للاستشارات والبحوث والاعلام