الكتاب الذي أخرجته مطابع وحدين الحديثة مطلع هذا العام 2010م، تحت عنوان " محطات تاريخية من واقع الذاكرة " للمؤلف ناصرمحمد سالمين المنهالي . يُعتبر بمقاييس كثيرة إضافة نوعية متميزة للمكتبة التاريخية الحضرمية واليمنية خاصةً، ولتأريخ شبه الجزيرة العربية على وجه العموم.
لقد ضمّ الكتاب إلى جانب السيرة الشخصية التي سردها الكاتب عن قصة حياة القائد العسكري والإداري الراحل حسين مسلم المنهالي رحمه الله، كمّاً هائلاً من المعلومات التاريخية والجغرافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، تتناول في تغطية شبه شاملة مرحلة هامة من مراحل تاريخنا الحديث والمعاصر.
وهي المرحلة التي أفرزت تداعيات الأحداث فيها مناخاً ( جيوسياسياً ) أتاح للأوضاع السياسية والاقتصادية لحضرموت بأنْ تتشكل بالشكل الذي صارت إليه الآن. فقد سردَ الأستاذ المنهالي في ذكرياته هذه تأريخاً محققاً موثقاً . ولم يكتفِ بذلك الذي شاهده وعاصره من أحداث ووقائع ، بل أثراه بالعديد من المعلومات الجغرافية والاجتماعية عن المناطق والمواقع التي كانت مسرحاً لهذه الوقائع وتلك الأحداث. الأمر الذي يرفع من شأنْ هذه الدراسة ( المذكرات) ليضيف إليها بُعداً ( جيوسياسياً ) تزداد به أهميةً وتألقاً .
القائد حسين مسلم المنهالي من شعب البادية إلى كلية ساند هيرست :
خصص الكاتب الفصل الأول من كتابه لاستعراض سيرة حياة القائد العسكري والإداري المرحوم حسين مسلم المنهالي في قرابة العشرين صفحة . والقائد المنهالي شخصية قيادية حضرمية مشهورة . نشأ نشأةً عصامية ، فتىً يتيماً من بادية حضرموت ، أستقرَ مع من تبقى من أفراد أسرته بشعب البادية ـ أحد ضواحي مدينة المكلا ـ كغيرها من الأُسر البدوية التي عانت من كارثة المجاعة الشهيرة التي أصابت حضرموت في سنوات الحرب العالمية الثانية. وتهيئ الأقدار الفرصة لهذا الفتى في أنْ يلتحق بمدرسة أبناء البادية ومنها الى وسطى الغيل الشهيرة ، لينضم بعد ذلك ( في عام 1950م) الى جيش البادية الحضرمي.
وخلال رحلة عمله في هذه المؤسسة العسكرية تدرج حسين المنهالي ارتقاءً مرتبة بعد أخرى. وأظهر كفاءةً إدارية مكّنته من أن يحصل على دورات متقدمة من بينها دورة بكلية ساند هيرست العسكرية البريطانية الشهيرة. شغل بعدها منصب أركان جيش البادية الحضرمي طوال الفترة الممتدة من مطلع الستينات وحتى أوائل عام 1968م ، وهو العام الذي حُلَّ فيه هذا الجيش ليتحول ـ أي جيش البادية الحضرمي ـ الى مجرد لواء ضمن جيش جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية الوليدة ، تحت اسم اللواء الثلاثين.
وخلال فترة عمله تلك، ساهم الراحل المنهالي في كثير من النشاطات الاجتماعية والرياضية ، أكسبته رصيداً اجتماعياً وسمعة حسنة في أوساط المجتمع حضراً وبادية. وعند رحيل السلطة الاستعمارية البريطانية ، قام الراحل المنهالي بدور مذكور وحاسم في عملية انتقال السلطة وتنازل السلاطين وتثبيت الحكم الوطني لدولة الاستقلال ، من خلال موقعه في قيادة أركان جيش البادية ، وأيضاً كمستشار عسكري لوفد " الجبهة القومية" في مفاوضات الاستقلال بجنيف.
أحد جنود جيش البادية الحضرمي بلباسه الرسمي
تأريخ جيش البادية الحضرمي :
قدّم المؤلف كذلك عرضاً تاريخياً موثقاً لجيش البادية الحضرمي (H.B.L ) ، وهو ذلك الجيش الذي أنشأته السلطة الاستعمارية البريطانية بمحمية عدن الشرقية التي كانت تضم حضرموت القعيطية وحضرموت الكثيرية وسلطنة ومشيخة الواحدي وسلطنة بن عفرار في المهرة وسقطرى. وقد لعب ذلك الجيش الذي كان قوامه أبناء البدو الرّحل من مختلف قبائل المحمية ( حضرموت أساساً) دوراً كبيراً في التاريخ العسكري والاجتماعي للمنطقة.
ولما كانت السلطة الاستعمارية البريطانية قد اختارت المنطقة المعروفة ب ( ليجون) في هضبة غيل بن يمين بوسط حضرموت كأول موقع تأسيسي لهذا الجيش. نرى المؤلف وهو يستعرض تأريخ هذا الجيش في صفحة 39 من الكتاب ، يشير الى أنّ كلمة ليجون انجليزية مشتقة من كلمة ( Lion ) ومعناها أسد. وكأنه بذلك يرمي الى أنّ اختيار هذا الاسم جاء كصورة من صور الكناية البلاغية عن قوة الأسد وشجاعته المعروفة . لكن الحقيقة ـ كما أطلعت ـ ليس لها علاقة بالأسد ، خاصةً وأنّ كلمة ( ليجون) هي كلمة رومانية الأصل، كانت تطلق على الوحدة الرئيسية في الجيش الروماني ثم استخدمت في اللغة الانجليزية بعد ذلك لتعني الفيلق.
ويشير المؤلف الى أنّ تأسيس جيش البادية الحضرمي ومدرسة أبناء البادية بديس المكلا ومدرسة بنات البادية في المنورة بالمكلا أيضاً. وغيرها من المرافق التعليمية والاجتماعية ، كانت من الانجازات التي حققها المستشار البريطاني الشهير هارولد انجرامز منتصف ثلاثينات القرن العشرين المنصرم. كذلك قدّمً المؤلف كمية طيبة من المعلومات الجغرافية والعسكرية عن مختلف مناطق ما كان يسمى بالمحمية الشرقية ، والمواقع العسكرية والمطارات فيها والآبار الشهيرة في أطراف صحاريها.
عادات وتقاليد البادية وتأريخ صحراء ثمود :
من أمتع الصفحات التي تضمنتها هذه المذكرات ، هي تلك الصفحات التي استعرض فيها المؤلف عادات وتقاليد البادية الحضرمية وأساليب معيشة البادية في تلك البيئة الطبيعية الصعبة وقضايا الرعي والثأر وعادات الزواج وغيرها. كما تضمن هذا الفصل من الكتاب عرضاً لأهم ملامح تاريخ صحراء ثمود ، وأهم الغزوات والمعارك التي شهدتها تلك المنطقة في النصف الأول من القرن العشرين. كذلك أشار في نوع من الرومانسية الى الإسهام الطيب الذي لعبه ( جواز بن عفرار) في تسهيل هجرة الحضارم لطلب العيش الكريم في بلدان الكويت والخليج العربي في خمسينات ذلك القرن. وباختصارٍ شديد، فأنّ " كشكول" المعلومات التي احتوتها المذكرات التي نحن بصددها ، تشكل في مجموعها بانوراما موسوعية ، لا غنى عنها لكل دارس وباحث في تاريخ المنطقة.
يا حضرموت أفرحي :
ولأنّ المؤلف المنهالي لم ينسْ شاردة أو واردة في ثنايا هذه المذكرات الشخصية . نراه يقدم لنا سرداً وافياً لقصة التنقيبات الشهيرة عن البترول في صحراء ثمود ، التي قامت بها شركة (BCL ) البريطانية في الخمسينات ثم شركة ( بان اميركان) الأمريكية مطلع الستينات. وماولّدته تلك المسوحات والتنقيبات من آمال لدى الناس في حضرموت في تلك الفترة. وهي تلك الآمال التي خلدتها أغنية الفنان الراحل محمد جمعة خان الشهيرة :ـ ( ياحضرموت أفرحي ... بترولنا بايجي .... الفقر ولّى وراح )
ملاحظة وإشارتان :
* ذكر المؤلف في صفحتي 20&21 أنّ التفويضات المالية التي منحها المستشار البريطاني ومساعده العسكري كولونيل جونستون عند مغادرتهما المكلا في سبتمبر عام 1967م إلى القائدين العسكريين الجوهي و المنهالي لتشغيل حساب الموازنة المالية لجيش البادية الحضرمي لدى البنك الأهلي بالمكلا. والصحيح أنه لم يكن بالمكلا في ذلك الوقت بنكاً يسمى بالبنك الأهلي اليمني وإنما كان هناك البنك الشرقي المحدود .
* ذكر المؤلف في صفحة 19 العبارة التالية :ـ( وأثناء الترتيبات السريعة من قبل قيادة جيش البادية جاء إلى معسكر قيادة الجيش بالمكلا سالم الكندي مرافقاً معه صلاح مرسال المرتدي البدلة العسكرية بدون رتبة متلثماً بعمامته والذي كان عمله في السابق طباخاً لدى أحد الانجليز.
* كما ذكر المؤلف في صفحتي 25 & 26 العبارة الأخرى التالية :ـ ( تمّ إصدار أمر تقاعد القائد حسين مسلم المنهالي من خدمة الجيش مع الإقامة الجبرية والحراسة العسكرية على منزله علماً بأنه في اليوم الأول لأمر تقاعده تمّ تفتيش منزله الشخصي من قبل ضابط حديث التعيين كان عمله سابقاً طباخاً لدى أحد الانجليز بالمكلا واسمه "راوح" من تعز) .
وفي تقديري ، فأنّ هاتين العبارتين المقتبستين من الكتاب المشار اليهما سلفاً تحملان إشارتين واضحتين لإرهاصات ماجرى من أحداث وتغيرات في حضرموت وعموم الجمهورية الوليدة في السنوات التي تلت.
*- بقلم / محمد سالم قطن
*- المصدر : الناشر
مناسبة رسمية في باحة قصر السلطان بالمكلا