"حوار بين شامي ويمني"
والآن جاء دوري لأروي لك قصتي يا صديقي, قال اليمني: اليمن كانوا يسمونها العربية السعيدة أرض الأحلام والأساطير .. عرش بلقيس وحضارة سبأ.. هدهد سليمان وأرض الجنتين.. وسيل العرم المذكورة في القرآن الكريم.. ممالك في الشمال والجنوب.. مؤانى التجارة العالمية في العالم القديم.
قنا وعدن والمكلا وشبوة وحصن الغراب.. بلاد التتابعة والمناذرة والغساسنة.. وملوك حمير وكنده.. قادة الفتوحات والأمصار.. موطن بني هلال وابو زيد وذياب بن غانم وسادة العرب, ولكن يا أخي الكريم كما يقولون في اللغة: "كان" فعل ماض ناقص فأين كنا وأين أصبحنا؟ ابتلينا بهؤلاء القوم تجار الحروب والموت.
قبل الحرب كنا نعيش في هدوء وسكينة وسعادة في مدينة صغيرة أطلق عليها الإنجليز "كريتر" أي فوهة البركان .. مدينة حالمة وادعة تستلقي على شواطئ بحر العرب وتستند على جبل شمسان.. وتحتضن صهاريج عدن التاريخية..!!
شهدت مدينتنا عصوراً تاريخية مختلفة.. اجتاحها الغزاة في فترات تاريخية : البرتغال, الأتراك والإنجليز.. ولكن لم تشهد مثل هذا الدمار والخراب على أيدي أناس من بني جلدتنا ..
قبل الغزو الحوثي كنا ننام على رائحة الفل والكاذي الذي تتضوع بروائحه حارات ومنازل عدن كل مساء.
ونستيقظ على نداء الأذان: الله أكبر .. وفي ساعات الفجر الأولى كانت نسائم الصباح الندية تهب على أرجاء المدينة .. ومعها أصوات الباعة المتجولين, والسماء تكتسي بسحابات سوداء مثقلة بالمطر .. تنشر رذاذها على وجوه المارة وأوراق الأشجار .. وتغسل الشوارع وتزيل الضيق من النفوس .. وتشيع البهجة والمحبة والتسامح بين الجميع.
وعندما بدأت الحرب على الجنوب كنا نتابع الأخبار بقلق حتى وصلت جحافل الغزاة إلى أطراف محافظة عدن شمالا.
ثم أخذ هدير المدافع وأزيز الرصاص يقترب منا ويزداد القتال عنفاً وضراوة .. وهربت مئات الأسر نحو كريتر من القتال, وتفرقت في الحارات عند أقاربهم ومنها حارة القطيع التي نسكن فيها ..
وكان في الأسرة ثمانية شباب منهم خمسة أبنائي وثلاثة أبناء أخي ومع اقتراب الحملة الهمجية من كريتر اشتد القصف ولم يوفر أحداً.
لا مدرسة ولا مسجداً ولا منزلاً استباحه كاملة للمدينة مع انتشار القناصة فوق المباني ورؤوس الجبال كان اثنان من أبنائي قد تدربا في وقت سابق على السلاح الآلي الخفيف وواحد من أبناء أخي تدرب قبل الحرب على استخدام البازوكا والار بي جي والرشاشات الثقيلة مع أصدقائه الذين يملكون قطعاً منها !!
وعندما دقت طبول الحرب نهض الشباب مع رفاقهم للدفاع على عدن وأهلها وكانوا نحو 30 شاباً توزعوا في 5 مجموعات للمقاومة في الحارات
وقد فعلوا الأفاعيل في قوات صالح و الحوثيين وتمكنوا من إعطاب دبابة وتدمير عربتين وقتل 7 أشخاص من أفرد الميلشيا في كمائن وسط الحارات
كانوا يتنقلون من مكان إلى آخر بخفة وحذر ولكن الجواسيس والخونة وشوا بهم ودلوا عليهم وعلى مواقعهم وحوصروا وهم في 3 عمارات وكانوا يقصفونهم بالدبابات والكاتيوشا .. وحيناً ينادون عليهم بمكبرات الصوت ويطلبون منهم الاستسلام ولكنهم كانوا يرفضون وقاتلوا ببسالة وفضلوا الموت على الاستسلام وحاصروهم في تلك البنايات 3 أيام كاملة وهم تحت القصف والحصار وتمكنوا من قتل 5 من أفراد الميليشيات وضابط من قوات صالح.
وعندما يئسوا من استسلامهم انهالوا عليهم بكافة أنواع الأسلحة من مدافع ثقيلة وصواريخ ودبابات وغيرها حتى سووا البنايات الثلاث بالأرض ومات 25 شاباً تحت الأنقاض وهم بين قتيل وجريح .. وفر خمسة منهم, وتم قتل الجرحى بدم بارد !!
وانتقاماً مما جرى هاجموا حارات عدن التي لازالت تقاوم, وخرجنا من منازلنا قسراً تحت القصف والركام .. وهربنا ليلاً تحت جنح الظلام وعددنا 30 أسرة على شكل مجموعات, كل مجموعة يفصلها كيلو متراً عن المجموعة التي تليها حتى لا نهلك جميعاً !!
عبرنا العقبة وهبطنا في المعلا ودخلنا بيوت أقارب لنا .. !
وفي الصباح الباكر طال القصف أحياء المعلا والبيوت التي احتمينا فيها, وكنا نسير في ثلاث مجموعات, أما إحدى المجموعات فقد انهالت على مبناهم الذي احتموا فيه عشرات الصواريخ والقذائف وقٌتل كل من في ذلك المبنى واستشهدوا جميعاً وعددهم 15 شخصاً بين رجل مسن وأطفال ونساء.
واستمرت القذائف تنهال علينا وعلى المباني المجاورة حتى حلول المساء, وبعد أن هدأ القصف تسللنا تحت جنح الظلام وهربنا في مجموعات صغيرة إلى التواهي, واحتمينا في بيت مهجور تركه أهله.. وكانت ليلة هادئة وسكون مريب كالذي يسبق العاصفة, وخرجت منتصف الليل أتسلل نحو البحر لعلي أجد أحياء فوجدت صاحب زورق كبير واتفقت معه على أن ينقلنا إلى البريقة, وطلب الدفع مقدماً فدفعت كل ما لدي من مال واشترط حضور الجميع في الخامسة صباحاً ..
وعدت إلى الأسر وأبلغتهم بالاستعداد للخروج صباحاً!! وكعادة النساء حتى وقت الحرب يضيعن الوقت في أمور ليست هامة, وكأننا ذاهبون في نزهة. و بعد أن نجونا من القصف وهدأت الأحوال, خرجنا في السادسة صباحاً وقد ذرت الشمس بقرنها , وصعدنا إلى الزورق ولم نكن وحدنا وانضمت إلينا أسر أخرى ووصل عددنا جميعاً كباراً وصغاراً ذكوراً وإناثاً نحو 70 شخصاً..
وأبحرنا, وبينما نحن في عرض البحر إذ انهالت علينا القذائف من جبال التواهي من كل جانب.. وبداية كانت القذائف تسقط في البحر أمامنا واختلط الدم واللحم , وتطايرت الأشلاء, ومزقت القذائف أجساد الجميع وغرق الزورق في عرض البحر, فمن لم يقتل فوق القارب أصيب إصابة قاتلة ولم يستطع العوم والنجاة ومات غرقاً.
وقد وجدت نفسي في عرض البحر وكتفي تنزف دماً من شظية أصابتني فتحاملت على نفسي رغم أنني رجل مسن وسبحت في الماء ساعة حتى وجدت لوحاً خشبياً عريضاً, فركبت عليه حتى قذفني الموج على شواطئ البريقة.
ورآني ثلاثة من أفراد المقاومة الجنوبية وهرعوا نحو الشاطئ وحملوني وأنا بين الحياة والموت, وأدخلوني أحد البيوت وعالجوني لمدة يومين حتى شفيت من جراحي .. وعندما استعدت وعيي سألوني عما جرى, فرويت لهم ما حدث والمشاهد المروعة التي رأيتها عند غرق السفينة ولن أنساها ما حييت, ومنها بعض المشاهد المأساوية التي لن تغادر ذاكرتي وهي كالتالي:
أم كانت جالسة في الركن الأمامي للقارب ترضع صغيرتها "أماني" ونزلت عليها أول قذيفة وشطرتها إلى نصفين وفلقت هامة الرضيعة وفمها لازال ملتصقاً بثدي أمها .. أتعرف من المرأة؟؟ أنها زوجتي والطفلة هي ابنتي!!
المشهد الآخر: رجل مسن جلس يداعب 3 من أحفاده الصغار وقد جلس إلى جواره 4 نساء شابات هن بناته, وسقطت عليهم قذيفة مزقتهم أشلاء واستقروا في قاع البحر!!
أما المشهد الأخير الذي لازلت أتذكره قبل أن أصاب فقد كان سقوط 10 قذائف دفعة واحدة على القارب وقضت على جميع ركابه وتطايرت أشلائهم في السماء وانسكبت دمائهم كشلال أحمر نزل على البحر حتى أحمر لونه!!
في حين طفت الأشلاء الممزقة على سطح البحر!!
أما أنا فكنت الناجي الوحيد من هذه المأساة المروعة وهي واحدة من مئات المآسي التي شهدها أبناء الجنوب في الحرب الظالمة من قوات صالح وميلشيات الحوثي باسم الوحدة اليمنية!!
وبعد ذلك سألني الشباب إلى أين تريد الذهاب يا عم سنوصلك إلى الجهة التي تريد؟ هل تريد الذهاب إلى جيبوتي هناك زورق سيتجه مساء اليوم إلى هناك؟ فقلت لهم: لا أريد أن أغادر بلدي, أريد أن أموت هناك على ترابها, أريد أن أنضم إليكم إلى المقاومة لمقاتلة هؤلاء الغزاة المجرمين.
ثم قالوا لي لا بأس.. ولكن لدينا مفاجأة لك.. وكانوا جميعاً ملثمون يخفون وجوههم.. فتفرست ملامحهم ثم تقدم اثنان منهم وكشفا عن وجهيهما.. وطرت من الفرح.. وقفزا نحوي يطوقان عنقي ويبكيان, واحد من أبنائي والآخر ابن أخي.. إنهما الناجيان من 30 مقاوماً كانوا في كريتر .. فقلت لهما: سأقاتل معكما.. وأموت هنا..ولن أذهب إلى أي مكان.. وحملت سلاحي معهما منذ ذلك اليوم وتمكنت المقاومة الجنوبية من طرد ميلشيات الحوثي وعصابات صالح ودحرتهم إلى الأبد وانتصرت عدن !!