"حوار سوري..يمني"
عربيان اجتمعا في النمسا, شامي ويمني و تعارفا و شكى كل منهما همه للآخر فقال الشامي: ينطبق علينا وعليكم المثل القائل:"لا طلنا بلح الشام.. ولا عنب اليمن" واتفقا على أن يروي كل منهما قصة من المآسي المروعة التي تحدث اليوم في بلديهما.. فقال الشامي: إن شعوبنا المقهورة المبتلاة بحكامها لم تذق بلح الشام .. ولا عنب اليمن.. بل ذاقت الموت والدمار والهلاك والتهجير القسري على أيدي أبنائها.. أو بالأحرى زعمائها.. الذين رفعناهم على الأكتاف وحملنا صورهم.. وهتفنا بأسمائهم في سالف الأيام!!
توسمنا فيهم الخير فكانوا شراً ووبالاً ونكالاً علينا. كل ذلك الدمار من أجل الكراسي والمناصب والمصالح.. لم يفكر هؤلاء في الآخرة وأن الحساب والعقاب عند الله لا محالة في قوله تعالى:( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره, ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) صدق الله العظيم. الزلزلة- الآية 6-8.
لقد أعمى الله بصرهم وبصيرتهم وصَورت لهم شياطينهم من الأنس والجن أنهم خالدون في هذه الدنيا الفانية فأسرفوا في قتل شعوبهم ظلماً وعدواناً!! استدعوا جلاديهم في الداخل والخارج من حزب الشيطان إلى عصائب الحق.. إلى قطعان الحرس الثوري الإيراني.. إلى كتائب الجيش الطائفي.. وعندما استخدموا براميلهم المتفجرة وصورايخهم ودبابتهم وقتلوا الأخضر واليابس في مدن سوريا.. في حمص وأدلب وداريا ودوما.. وأحالوها إلى قاع صفصف.. لم يستطيعوا أن يهزموا الشعب السوري فاستدعوا الروس بصورايخهم وطائراتهم ومعهم الهوام والدواعش البشرية, قطعان من الأوباش والأوغاد واللصوص يجوبون المدن والقرى يقتلون وينهبون ويسفكون الدماء.. تضاءلت أمام هجماتهم ضربات المغول والغزاة في كل العصور.. وجرائمهم تصدرت الفضائيات والصحف وكأنهم ليسوا من أمه محمد رسول المحبة والرحمة والإنسانية.
ثم قال السوري دعني ابدأ قصتي:
نحن أناس بسطاء لا نبحث عن وطن بل نبحث عن سكن.. لا نبحث عن رايات ولا هتافات.. نبحث عن غناء أم لرضيعها, وبعض الهدهدات, نبحث عن رائحة الخبز والعشب البري الذي افتقدناه.. لقد ازكمتنا رائحة البارود والمدافع والرصاص.. ومزقت أكبادنا الأشلاء المنثورة.. وأستطرد قائلاً : مهلاً يا رجل لا تشح بوجهك عنا.. ولا تغضب من كلامي ولا تمل منا.. فقد كنا مثلكم سعداء لنا بيوت جميلة وعائلات تعود إليها آخر النهار محمله بخيرات الأرض وثمارها.. وكان لنا في الدار "دالية عنب" تظلل الصغار نهاراً وتشيع البهجة والجمال بعناقيد العنب التي تتدلى من بين المربعات الخشبية الملونة وتبهر القادم ألوان المصابيح الكهربائية.. وفي الجوار نافورة الماء المستديرة التي يطوف حولها الصغار في الأمسيات.. يلعبون ويتشاجرون.. ويرشون الماء على بعضهم البعض.. رغم نداء الأمهات ومطالباتهن للصغار بالكف عن الحركة.. ولكنهم أبرياء تتردد أصداء ضحكاتهم في أرجاء المنزل وساحاته.. يستلقون على ظهورهم وقد أعياهم التعب.. يبحلقون في النجوم التي تبرق في السماء.. أما الكهرباء فقد افتقدوها في الحرب التي أكلت الأخضر واليابس!!
واليوم يا صديقي أصبحنا كالسلاحف بيوتنا على ظهورنا كما ترى.. كيس فيه غطاء وماء.. وبعض مسكنات الجوع والوجع.. وقد تركنا ديارنا خلفنا هاربين من الحرب والدمار.. وتركنا أحبتنا في غياهب السجون.. هياكل عظمية كسجون اليهود في الحرب العالمية الثانية في ألمانيا.. تركنا بعض أحبتنا وقد لفظوا أنفاسهم على الطريق وهم يقاتلون!!
أما نحن فقد هربنا بنسائنا وصغارنا ومشينا مئات الكيلومترات.. ووقفنا على مفترقات الطرق ننتظر من يأخذنا إلى أوروبا التي قالوا أنها الجنة الموعودة, وقفنا نسأل سائقاً: هل تأخذنا بشاحنتك يا سيدي؟ نحن ليس لنا خيار في تحديد وجهتنا! خذنا أينما شئت وكيفما شئت.
رد علينا قائلا: ولكنها شاحنة للحوم المجمدة!!
قلنا: لا بأس يا سيدي.. نحن اللحوم المجمدة, لا شيء طازج في قضيتنا إلا موتنا يا سيدي!! خذنا أرجوك.. كيفما شئت.. أينما شئت..!!
يقولون أن في النمسا"نجاشي" جديد.. خذنا إليه!!
مالي أراك متردداً؟
قلنا لك: نحن نبحث عن سكن لا وطن.. نريد بلكونه وحديقة ولا حدود ومعابر.. نريد "كرفاناً" مسالماً لا وطناً محارباً.
اسمع بصراحة لقد أحببنا شاحنتك نحن السبعون مهاجراً من بلاد العرب, وهذه زوجتي, وهذه ابنتي.. أحلام جميعنا احببنا شاحنتك.. باختصار لأنها تشبه وطننا بامتياز!!
صدقني أنا لا أجاملك حتى تسمح لنا بالصعود!! هي وطننا المصغر.. مكتوب عليها شعار جميل ومرسوم عليها دجاجة!!
ووطننا كذلك له شعار جميل ونحن الدجاجة!! ماذا قلت؟ هل نصعد إلى وطننا الحديدي؟؟ صعووود!!
في الصندوق الخلفي بدأ المهاجرون يغنون بأصوات دامعة "ليالي الحزن في فيينا" يتمايلون بأجسادهم المتراصة, يضحكون, يبكون, يتقاسمون الخبز اليابس وقطرات الماء والأوكسجين, كان الحر شديداً والطريق بلا نهاية.. حاولوا تنبيه السائق أن الأنفاس بدأت تضيق..طرقوا جدران الشاحنة الأربعة طويلاً!!
كما طرقوا من قبل على جدران الوطن طويلاً ولم يستجب لهم أحد!!
وكذلك السائق لم يسمع.. فصوت محرك الشاحنة الكبيرة أعلى بكثير من صوت الاستغاثة في لحظة الأفول, وقفوا في باب الزنزانة المحكم القفول ينتظرون وقوفاً محتملاً, أو يقظة ضمير, لكنهم تساقطوا تباعاً كورق التوت في أيلول.. في لحظة الأفول,هناك في الوطن يموتون في الزنازين معلقين بالسلاسل وهم ينزفون, يموتون من الاختناق لا فرق.. الفرق هم انهم في وطنهم الذي ضاقت جدرانه عليهم.. ونحن في وطن الغربة الحديدي يمشي على ست عجلات..
زحف الأب بصغيرته"أحلام" قطع أنفاسه قليلاً لتعيش أكثر.. دفعها بيده الضعيفة نحو فوهة الهرب.. لكن ما لبثت أن ماتت "أحلام العرب".
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم, وحسبنا الله ونعم الوكيل, فهل ماتت النخوة برؤوس الرجال؟!
وللحديث بقية.. نستكمل فيه قصة اليمني الشريد الطريد المهاجر من وطنه..!