تناقلت الوسائل الإعلامية المحلية والدولية، الأسبوع الماضي، خبر الجمل الذي رفض مغادرة قبر صاحبه الذي يدعى" الحاج على حسين النعنع "،الذي تم موراة جثمانه إلى قبره قبل أكثر من أسبوع، في قرية بيت الرعيني عزلة حجاج مديرية السدة محافظة إب، فقد ظل ملازماً للقبر سواء بجلوسه أو تواجده إلى جواره وحتى تفقده، وكأنه يحاول التحدث إلى من في القبر، أو التعبير له بذلك من خلال وضعه رأسه فوق القبر، مسجلاً بذلك أروع الصور في الوفاء ورد الجميل لصاحبه، وتجسيده أعظم المعاني المعبرة عن حالة الحزن التي طرأت عليه جراء رحيل صاحبه عن الحياة، في زمن ربما باتت هذه السمة العظيمة في حالة انعدام عن البعض من البشر، ومفقوده لدى البعض من الناس، وفي زمن شاع فيه سماع القصص المفجعة ورؤية الصور المؤلمة لانعدام الوفاء والتآخي والرحمة بين أفراد المجتمع.
إن هذه الواقعة التي جاء حدوثها في وقت لاتزال فيه فاجعة جريمة تعذيب وقتل الطفلة "مآب" على يد والدها، ورمي جثتها، تخيم على عقولنا، هي نموذج حي لحُسن الخلق والتربية الصحيحة، وللوفاء والمحبة وسمو العلاقة بين "الحاج على حسين النعنع"، رحمه الله، وبين الجمل الذي بات يطلق عليه "الوفي"، ونقيض واضح لنموذج السقوط الأخلاقي الشائع في اليمن بشكل عام، وما يحدث من ظواهر سلبية وسقوط للقيم، وما ينتج عنها من جرائم نسمع ونقراء عنها بشكل شبه يومي في أمكنه وأزمنه مختلفة، ومنها جريمة تعذيب وقتل الطفلة "مآب" ،ورمي جثتها مؤخراً في محافظة إب.
إذا نظرنا إلى مدى تأثير هاتين الواقعتين النقيضتين (الجمل الوفي ، وجريمة تعذيب الطفلة مآب ورمي جثتها)، على نفسية الأنسان، سنجد أن تاثيرهما ووقعهما النفسي كبيراً ومؤلم، وتفاعل المجتمع معهما بصورة كبيرة كواقعتين نقيضتين، لتؤكد قصة واقعة الجمل "الوفي" أن الدنيا بخير في بلادنا طالما وقلب هذا الكائن يحمل هذا الحب والود والوفاء لصاحبه في زمن شح فيه الوفاء، وربما باتت هذه السمة العظيمة في حالة انعدام عن البعض من البشر، ومفقوده لدى البعض من الناس، لعلهم يتعلمون ويستفيدون من هذه الواقعة وإصلاح ذواتهم، فالجِمال مخلوقات ليست عنيدة وسيّئة الطبعِ، بل إنها في الواقع حيوانات ذكية وصبورة وطيبة الخُلق، ووديعة أليفة تحب من يؤانسها.
كثيرة هي المواقف والقصص التي يجسد أصحابها أروع صور المحبة والترابط بالحيوان، وبعض القصص تدل على عظمة الخالق سبحانه وتعالى،وفي واقعة مشابهة يحكى أن رجلاً عربياً اضطر إلى أن يبيع جمله لأحد الشيوخ في دولة الإمارات, وعندما تسلم المبلغ رجع إلى موطنة, وبعد ثلاثة آشهر فوجئ بنفس الجمل يقتحم عليه مسكنه، بعد أن قطع أكثر من (1200) كيلومتر، دون أن يضيع أو يتوه، فما كان من صاحبه إلا أن يعانقه ويعتذر منه لأنه باعه, وعندما عرف أفراد قبيلته بالحكاية, أخذوا يتبرعون له الواحد تلو الآخر، إلى أن اكتمل المبلغ المطلوب, عندها ذهب مع جمله للشيخ المشتري, وسرد عليه ما حصل ومد له النقود قائلاً له: هذا هو ثمن جملي الذي بعتك إياه ولك الخيار إما أن تأخذ نقودك وتترك لي جملي مشكوراً، وإما تسترد الجمل فقال له الشيخ: إن جملك هذا استطاع أن يحطم السياج ليلاً ويهرب, وعند الصباح بحثنا عنه في كل مكان، ولم نجده , ولكن إذا كان هذا هو (وفاء جملك)، وهذه هي أمانتك فإنني أرده لك, واعتبر قيمته التي أعطيتك إياها هدية مني لك.
وكثيرة أيضاً المواقف والوقائع التي تحدث بين الناس في الأُسرة، الأصدقاء، المحيط الاجتماعي، ونجد فيها اعتلاء حُسن الخلق والقيم على ذميم الأخلاق، وبالمقابل نجد آخرين يتجهون لفرض الأخلاق السيئة، وإسقاط القيم المثلى، والإضرار بالمجتمع بإشاعتهم سلوك الكراهية والجحود والخيانة في تعاملهم في إطار أُسرهم أو الآخرين من أفراد المجتمع، لتنتج في محصلتها النهائية العنف والواقع المرير والمؤلم الذي يعيشه الإنسان في مختلف المناطق اليمنية.
إن هذا الموقف والتعبير الصادق للجمل اليمني "الوفي" الذي جسد أروع الصور لمعاني المحبة والوئام والوفاء، يحمل لنا الكثير من الدلالات لتحيي فينا الأمل، وتقوي فينا إيماننا بعقيدتنا وديننا الإسلامي، كونها تخاطب عقولنا وقلوبنا في زمن تبدلت فيه الصفات الحميدة بالسيئة، ومشاعر المحبة بالكراهية، كي نتعلم ونجعل حُسن الأخلاق والمحبة والتراحم والوفاء قيماً تتربع في قلوبنا، وسلوكاً حاضراً في حياتنا اليومية، وفي تعاملنا مع بعضنا البعض كأفراد وأُسر وأبناء وآباء، وأن نعلم جيداً أن الأخلاق الفاضلة ليست مجرد رداء نلبسه متى شئنا، وننزعه متى أردنا، بل هو سجية أصلية ومكتسبة، ليتسلح بها المجتمع للحد من الأخلاق السيئة التي تدمر وتغزو المجتمع، وتنخر في عقول شبابنا. وعلينا أن ننظر إلى هذه الوقائع من منظور المتفائلين بأن الدنيا لا تزال بخير، وأن علينا التعلم منها لإصلاح ذواتنا وسلوكنا، على اعتبار أن الفارق بين الإنسان والحيوان، العلم إذا لازمه الإيمان والتطبيق.