في العام 2009م وفي سياق أعمال التشاور الوطني الذي دعا إليه تكتل أحزاب اللقاء المشترك، كان كاتب هذه السطور قد تقدم إلى اللجنة المصغرة للحوار الوطني بدعوة لتبني مبادرة لتبني دولة يمنية اتحادية بإقليمين، شمالي وجنوبي، أملا في بناء دولة يمنية واحدة لا مركزية من ناحية، وردا لاعتبار الجنوب واستعادة لمكانته في البنية السياسية اليمنية ومعادلاتها المعقدة ورغبة في تصحيح الأخطاء القاتلة التي ارتبطت بالوحدة الاندماجية العشوائية والمرتجلة، وبالحرب المدمرة التي ألغت الشراكة الوطنية وحولت الجنوب بثورته وأرضه وتاريخه وثقافته وهويته وسكانه إلى مجرد غنيمة حرب تقاسمها المنتصرون.
لم تحظ الفكرة بالتأييد، وشخصيا لم أكن لاستغرب أن تواجه بالرفض من بعض المستفيدين من نتائج الحرب، لكن الغريب هو ذلك العبوس والغضب الذي أبداه بعض الزملاء من قيادة المشترك وبعضهم ليسوا من حلفاء الحرب أو المستفيدين من نتائجها، فقد بدوت لهم وكأنني دعوت إلى إعادة عبادة هبل واللات والعزى، وليس إلى تصحيح خطأ سياسي يرتبط بسلوك بشري نجمت عنه كوارث دمرت حياة الملايين من المواطنين الجنوبيين وعطلت الحياة في البلد كلها لما يقارب عقدين من الزمن.
هذه الأيام بدأت الأخبار تتسرب عن مبادرة خليجية ثانية تستهدف إكمال المبادرة الخليجية الأولى وتتناول بشكل أساسي القضية الجنوبية من خلال الحديث عن دولة اتحادية بإقليمين (شمالي وجنوبي) على أساس حدود العام 1990م.
كان يمكن لهذه الجزئية أن تكون جزءا من المبادرة الخليجية (2011م) لكن هذا لم يتم ليس لأن الخليجيين لا يعرفون شيئا عن الجنوب، بل لأن المبادرة خرجت من قصر الستين وكان من أعدها هو من تسبب في كل كوارث اليمن ومنها الكارثة الجنوبية ولم يكن لينشغل إلا بالحصول على الحصانة واستمرار التحكم بالقرار السياسي والأهم إبقاء الهيمنة على البقرة الحلوب المتمثلة بالجنوب وثرواته المكتشفة والواعدة، التي جنى منها هو وأنصاره عشرات وربما مئات المليارات من الدولارات، وقد كان له ما أراد.
وكان يمكن للمشاركين في مؤتمر الحوار الوطني الذي استمر لما يقارب السنة والذين أنهكوا مسامعنا بتكرار عبارة "إن القضية الجنوبية هي المفتاح لحل مشاكل اليمن" أن يتبنوا هذه المبادرة ويتخذوا بها قرارا شجاعا كواحد من مخرجات المؤتمر، وفي الحالتين كان الأمر سيتطلب عملا أسطوريا كبيرا لإقناع الجنوبيين بإمكانية جدوى هذا النوع من الشراكة بعد المرارات المتواصلة التي تجرعوها مع تجربة الوحدة الاندماجية المرتجلة وتجربة الوحدة بالحرب.
لكن كل الذين ناقشوا هذه القضية استكثروا على الجنوب أن يكون مثل أم القيوين أو الفجيرة في دولة الإمارات العربية المتحدة، أو جمهورية داغستان في روسيا الاتحادية أو البنجاب في الهند، ولم يفكروا إلا بكيفية نقل المشكلة من مشكلة تكمن في شكل الدولة العشوائية التي أعلنت عام 1990م إلى مشكلة بين شرق الجنوب وغربه، وهي حبكة سخيفة يكتشف ما فيها من تحاذق مملوء باللؤم والخسة أي مبتدئ في عالم السياسة.
وعودة إلى موضوعنا فإن فكرة الفيدرالية الثنائية قد فات أوانها بعد أن تصاعد مد الثورة الجنوبية الهادف إلى التحرر واستعادة الدولة الجنوبية إلى أقصى مداه، وأصبحت الدعوة لهذا النوع من الفيدرالية أشبه بمن يجري عملية قيصرية لاستخراج الجنين من بطن الأم لكن بعد موت الجنين ومفارقته الحياة، ذلك إن الجنين المفترض إنقاذه قد مات وشبع موتا عندما لجأ الحكام إلى الاعتداء على النشطاء السلميين العزل من السلاح وتمادوا في القتل حتى بلغ عدد الشهداء الآلاف وأضعافهم من الجرحى والمعتقلين وما يزال الحكام يتجاهلون الدماء التي سفكت والأرواح التي أزهقت وهم يتسلون بالتغني بوحدتهم القابعة في غرفة العناية المركزة.
سيكون ألأولى بالمبادرين (إن وجدت مبادرة كهذه) أن يدعوا إلى تنظيم استفتاء جنوبي يقرر فيه الجنوبيون مصيرهم بإراداتهم، ولو صوت الجنوبيون على النظام الفيدرالي أو حتى على الوحدة الاندماجية، بصيغتها المعوجة الراهنة، فليكن ما يكون أما بقية الرهانات فإنها ستذهب أدراج الرياح كما ذهبت سابقاتها، لأنها لا تخاطب مطالب الشعب ولا تلتفت لمعاناته وتطلعاته بقدر التركيز على ما يستفيده أو يخسره أصحاب المصالح الذين لم يشبعوا ولم يقنعوا من النهب والسلب حتى بعد ما ألحقوه بالبلد من دمار واستنزاف وإنهاك وإذلال.
إذا كانت المبادرة التي يجري تسريب الحديث عنها على استحياء قد جاءت كسابقتها بناء على طلب يمني فإن هذا يؤكد أن البلادة السياسية في اليمن مستفحلة ومستعصية على العلاج والتجاوز، ذلك إنه كان بمقدور الذين فوضهم أعضاء مؤتمر الحوار الوطني، اتخاذ قرارا بشكل الدولة الفيدرالية الثنائية بشجاعة وكان يمكن حينها تجنب كل الآلام والتبعات المدمرة التي لحقت القرار الأعرج الخاص بالستة الأقاليم.
برقيات:
* بعد معاناة ما يقارب الشهر والنصف مع الإصابة التي تعرض لها على أيدي رجال أمن السلطة توفى الجريح الجنوبي سمير عمر الشاووش الصلاحي في غرفة الإنعاش بمستشفى النقيب بعدن.
* الشهيد الشاووش ليس الأول وقد لا يكون الأخير ونظام صنعا يتغنى بالوحدة اليمنية التي أذاقت الجنوبيين ما أذاقت من التجويع والترهيب والإقصاء والسلب والنهب والتقتيل والتشريد، إنها البلادة السياسية في (أبهى) تجلياتها.
* الرحمة والغفران للشهيد الشاووش وكل شهداء الثورة الجنوبية وشهداء الحق المغتصب والعدل المفقود في كل مكان، والصبر والسلوان لأسرة وذوي الشهيد ولا نامت أعين الجبناء
* قال الشاعر:
إذا جار الأمــــــــــيرُ وحاجباهُ وقاضي الأرضِ أسرفَ في القضاءِ
فـــــــــــــــويلٌ ثمَّ ويلٌ ثمَّ ويلٌ لقاضي الأرضِ من قاضي السماءِ