جوستاف لوبون المقيم في معنى الحضارات الإنسانية، والمتتبع لتقلباتها العاصفة، حاول استخلاص القوانين الموضوعية الناظمة لهذه الحالة، وهو أمر نحتاجه اليوم أكثر من أي وقت مضى، حتى يتسنَّى لنا الإجابة عن السؤال الفادح في الزمن العربي.
فالظلم العالمي أسفر عن أبشع صوره، فيما أصبحت المنطقة العربية ساحة للبروفات القاسية، سواء جاءت من الآلية القاهرة لطغيان النظام الدولي، أو من وكلاء الأعمال المحليين المنخرطين في متوالية الجنون والتداعي الحُر مع المتاهة.
يعتقد لوبون أن ثقافة الأُمة تنبع من عوامل بيئة تاريخية متغيرة، وأن تلك الثقافة لا تنحسر بين عشية وضحاها، بل تتناسخ مؤذنة بانقلاب يأتي بعد حين، وبهذا المعنى يقرأ الزمن المقرون بتواريخ الشعوب قراءة مغايرة للأزمنة البيولوجية والفيزيائية الاعتيادية للبشر. وهكذا تصبح أزمنة الشعوب موصولة بالآباء والأجداد.. لا تنزاح من مواقعها القديمة بسهولة ويسر، فالأموات يحكمون الأحياء ردحاً من الزمن، وسيكولوجيا الشعوب لا تتغير إلا بعد زمن طويل.
ويعتدُّ لوبون بالنخب، كما يعتد بالمراتبية الاجتماعية على الطريقة الأفلاطونية، مُقرراً أن التفاوتات في الشعوب سياق جبري للتطور، وبهذا المعنى يقرأ التركيبة الاجتماعية للبشر من خلال هرم قاعدته العوام، ورأسه النخبة، ولا يمكن للحضارة أن تكتمل بمقدماتها إلا من خلال هذا الهرم المحكوم سياقاً وجبراً بالتفارق الجوهري بين القمة والقاعدة.
ويرتقي لوبون بمقام الأخلاق، معتقداً أن جوهر الحياة الرفيعة للأمم يكمن في القيم الأخلاقية، لا النظم السياسية أو المصادفات، وهذه المقولة على وجه التحديد بحاجة إلى استقراء أفقي يُناجز المقولات الفلسفية المادية من جهة، كما يحدد المدى الموازي لها ميتافيزيقياً.
وفيما يتعلق بالتفاعلية بين الحضارات والثقافات، يرى لوبون أن الحاصل في هذه التفاعلية نقل للقشور لا الجواهر، فالجواهر كامنة في الثقافة الخاصة لكل شعب، والتأثيرات المتبادلة لا تلغي تلك الخصوصيات إلا في بُعدها السطحي المباشر.
إن ما جرى ويجري في العالم العربي دليل قاطع مانع على هذه المقولة الذكية.