سقط طاغوتٌ آخر، على يد شعب عظيم.
التاريخ يُصنع الآن..
وعلى الذين يقيمون الأمور بغرائزهم؛ خصوصا غريزة "المخاوف" المتجاوزة لحدها، أن يتواضعوا قليلا لشعبهم، ويمنحوه قدرا من الثقة التي عجزوا عن منحها لأنفسهم.
الحوثيون واضح جدا أنهم لا ينوون، ولا هم بصدد، ابتلاع كل شيء.
لقد قاموا بالمهمة التي تعذر إنجازها في 2011 ، وهي إسقاط مركز الثقل الحقيقي لنظام الفساد واللصوصية، إنه أيضا بؤرة النقص الحاد في الشرعية التمثيلية التي كانت طابعا رئيسا لسلطة الـ37 عاما.
توقيع ممثلي "أنصار الله"، الليلة الماضية، لاتفاق إنهاء "الأزمة"، هو الدليل الكبير على كون طموحاتهم (نواياهم) لا تتناقض مع خطابهم.
هذه قوة جبارة انتصرت انتصارا واضحا، يجعلها الآن على بعد خطوة واحدة، لو أرادت، لإسقاط آخر مؤسسات الدولة في يدها، ثم الهيمنة وفرض أمر واقع جديد مختلف كليا عن الواقع السياسي الذي أنتجته المبادرة الخليجية، أيا كانت الكلفة المترتبة على ذلك.
ولكنها لم تفعل، ولن تفعل، لقد ذهب ممثلوها بكل قناعة إلى دار الرئاسة، ليوقعوا اتفاقا مع رئيس الدولة والقوى السياسية، من شأنه (الاتفاق) أن يتولى هو ترتيب المرحلة القادمة، والواقع الجديد، بدل أن يرتبوا هم، كمنتصرين، كامل تفاصيل هذ الواقع.
سيظل الوعي المشروخ لدى العدد المعروف من أعضاء نخبنا السياسية والثقافية والإعلامية؛ يعمل بنفس الطريقة، ويقول: طز في الاتفاق، أو الحوثيون متعودون على توقيع اتفاقات ثم نقضها..!
ولكن هؤلاء لن يسألوا أنفسهم: فلماذا ذهبوا للتوقيع إذن، مع أن لديهم الإمكانية الكاملة لرفضه، أو على الأقل، المماطلة بشأنه حتى إنجاز السيطرة الكاملة لهم على كل شيء؟!
ثمة روح لدى الحوثيين تنزع إلى شراكة حقيقية، فلا تقتلوا هذه الروح بالتذاكي أو باستمرار القراءات "الغرائزية"؛ وخصوصا منها التي تصر على التعامل مع الحدث بكله، وليس مع الحوثيين فحسب، كحدث "طائفي" صرف.
هذه القراءات (والمواقف المترتبة عليها) لن تنجح إلا في الدفع بالحوثيين ناحية اليأس في كل ما يتبنونه على مستوى خطابهم السياسي من حديث عن "الشراكة"؛ وبالتالي يعودون إلى الوسائل الأسهل، وهي التي اعتمدها من سبقهم من المهيمنين على النظام السياسي عبر سلطة الأمر الواقع.
الحوثيون بدورهم أمام اختبارات صعبة، وبينها الاختبار الذي تضعه هذه الهواجس ناحيتهم لدى شركاء العملية السياسية، بل ولدى شرائح من المجتمع اليمني، أثق بأنهم يعون ضرورة العمل على إسقاط هذه الهواجس نهائيا، وقد لمست لدى قيادات منهم وعيا حقيقيا بهذه المسألة.
الجميع في صنعاء الآن، حوثيين وقوى سياسية، بيدهم تحويل هذه القوة المنتصرة إلى قوة "شريكة" وممثلة في النظام السياسي، استنادا إلى قوتها الجماهيرية المُعبر عنها، مستقبلا، في "الصندوق" و"الانتخابات"، أو الخيار الثاني: تحويلهم إلى طرف مهيمن، استنادا إلى قوة "الجغرافيا" و"القبيلة".. لنعود بذلك إلى حيث كنا، وإلى نفس الديمة التي خلفنا بابها.
غير ذلك؛ أنا متفائل بتوقيع الاتفاق السياسي، الذي يعني أننا تجاوزنا الحرب سريعا، حتى لو استمر الخلاف حول الملحق الأمني، وحول ترتيب الوضع الأمني في صنعاء، لأنه في النهاية خلاف سيحسم لمصلحة سيطرة المؤسسة الأمنية للدولة، واعتبار الانتشار الأمني الآن لأنصار الله مجرد انتشار مؤقت، وبما تقتضيه ضرورات الوضع غير المستقر الآن؛ وفي كل الأحوال، لا أحد بإمكانه الحلول محل الأجهزة الدستورية طوال الوقت.
* الأولى