من ماسي الربيع العربي الكثيرة التي لا تحصى ولا تعد ، ولا سيما بان الأمة العربية والإسلامية تحصد كل يوم وكل لحظه نتائج هذا الحصاد المر من استراتجيات العبث بالأمن والسيادة واستقرار وتقدم الدول والشعوب ، من تلك الماسي التي بشَّرت بها جحافل ومنظري الربيع العربي تعميم السياسة والصراع الحزبي والسياسي ليكون مأكل ومشرب الشعوب ، فالبائع البسيط والتاجر ورجل الدين فضلا عن الإعلامي والسياسي كلهم يتحدثون في السياسة ويسخِّرون كل معارفهم وما يحتفظون به من قيم اجتماعية وقبلية ودينية لتوظيفها في هذا الصراع السياسي على السلطة ، فتجد الكل يحلل ويفسر ويستنبط ويتهم ، بل تعدَّ الأمر إلى الاتهام بالخيانة والمطالبة بالقتل والتصفية والتشريد معتمدين على ترسانة اجتماعية من الكبت والاختلال والصراع والتسلط ينفثها الناشط الثوري والسياسي في وجه كل من يحب وما لا يحب ، وشتات السياسة وطبيعتها يقبل ويشجع كل هذا الصراعات التي تعتمد على الكلام وتترك العمل والإصلاح والاكتفاء بسياسية الكلام والشتم ومزيد من الخلافات والصراعات .
اكبر كارثة من وجهة نظري تواجه امتنا سقوط المثقف وصاحب الرأي والفكر في هذا المستنقع من الصراعات السياسية والطائفية ، بل إن الكثير سخر ثقافته وعلمه ومعارفه لإطلاق النار على خصومه وإخوانه في الفكر والثقافة . فحين اشتد الصراع السياسي في اليمن وتم حشد وحشر المثقف في ذلك الصراع الذي أطلق عليه " اصطفاف وطني " قائم على الشتم والسب والاتهام والتخوين والتخويف والترهيب استضافت قناة العربية الدكتور عمر عبد العزيز ذلك الشخص المثقف الرائع والطاهر في خصومته وتقبل الرأي الآخر ورفض العنف والإقصاء ، فإذا هو يتحفنا بنظرية سياسية وثقافية جديدة بمسمى " العنف المبرر " ردا على إطلاق النار من قبل حراسة مجلس الوزراء على المتظاهرين السلميين .
كيف تحول القتل والعنف ثقافة تبرر إقصاء وتصفية كل من يخالف أو يطالب بحقوقه أو يمارس شرعية دستورية وقانونية بالأمس كان هؤلاء المثقفون يتغنون بها وينشدون قصائد الثورة وشعارات التغيير " الشعب يريد إسقاط النظام " وشعار " لا دراسة ولا تدريس حتى يسقط الرئيس " . العنف المبرر والقتل المشروع والإقصاء الوطني والاصطفاف ضد الشعب صارت شعارات مثقفي السلطة والمسبحين بحمدها وسطوتها ؛ ولأجلها مستعدين للتخلي عن مبادئهم ودوس ثقافتهم وأخلاقهم وفكرهم وجعل الثقافة والفكر والإنسان بضاعة تباع وتشترى وتعرض في سوق النخاسة السياسية والحزبية والطائفية .
صار الوطن والوطنية والثوابت الديمقراطية سوق نخاسة كبير لبيع بواقي الكرامة والعزة والإنسانية ، فالثورة صارت سوبر ماركت كبير تتنافس عليه دولا إقليمية وعربية وغربية وتتسابق أجهزة الاستخبارات لاستقطاب ضعاف النفوس والقلوب لتبرير للقتل وسفك الدماء تحت حجة " العنف المبرر ، العنف الثوري " . قد ينجح المثقف في هذا السلوك الشائن ويكسب منصبا وزاريا أو يعين سفيرا في دولة أجنية أو تتسابق عليه القنوات لينفث سمومه الوطنية في القتل والتشجيع على الاحتراب لكنه حينئذ سيخسر روحه وثقافته وفكره ، فلن يكون الفكر والثقافة وسيلة للقتل ما تعاقب الليل والنهار ، ومهما غيَّر المثقفون جلودهم وألسنتهم ، ستكون الثقافة والفكر تدعو للمحبة والسلم والجمال وتقديس القيم والحفاظ على الإنسان وعيشه واستقراره وكرامته ، سيظل القتل قتلا والجريمة جريمة والعنف عنفا سواء كان المقتول حوثيا أو شماليا أو جنوبيا أو مدينا أو عسكريا ؟! .