في المشهد السياسي الجنوبي المتشابك، لا تكون الاستقالات مجرد قرارات إدارية روتينية، بل غالباً ما تكون رسائل مشفرة تحتاج إلى فكّ رموزها للوصول إلى جوهر الأزمة. واستقالة الأستاذ سالم العولقي من منصبه كرئيس لهيئة أراضي وعقارات الدولة ليست استثناءً؛ فهي حدث يطرح أسئلةً أكبر من مبرراتها المعلنة، ويفتح الباب أمام تحليلٍ يستند إلى المنطق والشفافية والمسؤولية تجاه الرأي العام
ففي مقال سابق، أكدتُ أن المجلس الانتقالي الجنوبي بقيادة الرئيس عيدروس الزبيدي، لا يمكن أن يكون طرفاً في أي ضغوط تعرقل قرارات العولقي الإصلاحية. فالمنطق السياسي والتنظيمي يفرض أن من يختار ويدعم ويرشح شخصيةً لتولي منصبٍ رفيع، لن يعود ليعرقل مساعيها. والعولقي، بصفته عضواً قيادياً في المجلس الانتقالي ومرشحاً من قبل قيادته، يفترض أن قراراته المصيرية – مثل إقالة قيادات فاسدة في فرع الهيئة بعدن – تأتي بعد تشاور وتنسيق كاملين مع القيادة التي ينتمي إليها.
فالقرارات التي تمسّ بنية مؤسسة حساسة كهيئة الأراضي، لا يمكن أن تُتخذ بمعزلٍ عن القيادة السياسية التي أوصلت المسؤول إلى منصبه هذا. ومن هذا المنطلق، فلا يمكن للعولقي – كممثل للمجلس الانتقالي – ان يتخذ قرارات كهذه دون التنسيق والتشاور والتباحت مع قيادة المجلس الانتقالي حولها ودون موافقتها المسبقة عليها.
والآن، يأتي الأستاذ العولقي ليقدم استقالته للحكومة، بدعوى وجود "قوى نافذة" تعرقل تنفيذ قراراته، من دون أن يسمّيها أو يحدد هويتها، في خطوة غامضة تثير تساؤلاتٍ عميقة عما اذا كانت هذه القوى حكومية بحتة؟
• أم أنها تنتمي إلى المجلس الانتقالي نفسه؟
فلو كانت هذه القوى تابعة للمجلس الانتقالي، ورئيسه هو من يعرقل قرارات العولقي، فإن هذا الأمر مستبعداً تماما، بل ومستحيلاً في الإطار التنظيمي والسياسي المعروف. فكيف لرئيسٍ أن يدفع بمرشحه إلى منصبٍ حساس، ثم يعود ليعرقل عمله؟ أما إذا كانت هذه القوى خارجة عن نطاق المجلس الانتقالي، فقد كان من المفترض أن يكشف العولقي عن هويتها بوضوح، ويوجه اتهاماته مباشرةً إلى الجهة المعنية – حكوميةً كانت أم غيرها – وسيكون الرأي العام حينها خلفه في مواجهتها.
وهنا يطرح سؤال محوري ملح على الضمير العام:
إذا كان العولقي يشير – ولو بطريقة غير مباشرة – إلى تورط جهات داخل المجلس الانتقالي في عمليات فساد أو عرقلة، فلماذا لم يقدم استقالته من المجلس الانتقالي أولاً، كقيادي فيه، قبل أن يستقيل من منصبه الحكومي؟
وكيف يمكن لمسؤولٍ أن يستقيل من جهةٍ يعتبرها فاسدة، بينما يبقى عضواً قيادياً في الكيان الذي يدعم هذا الفساد أو يمارسه عمليا بل ويعرقل قراراته الاصلاحية ؟
واذا كانت النزاهة هي دافع الاستقالة، فالأولى – بل والأجدر – بالأستاذ العولقي أن يقدم استقالته من قيادة المجلس الانتقالي الجنوبي الذي يعرقل قراراته الإصلاحية، وليس من الهيئة فقط.
هذا التناقض في المواقف يثير تساؤلاتٍ جدية حول طبيعة الولاء والمسؤولية والسياق الحقيقي للاستقالة. فالعمل السياسي المسؤول يقتضي الشفافية والوضوح، والمواجهة الحقيقية تتطلب كشف الحقائق، لا الانسحاب الغامض الذي قد يُفسر على أنه استسلام أو تواطؤ او تنفيذ لاجندة تستهدف تشويه صورة المجلس الانتقالي وقياداته..
وعلى الأستاذ سالم العولقي أن يكون شجاعاً ونزيهاً بما يكفي ليُعلن بوضوح: من هي الجهة التي تعرقل قراراته؟ وأين تكمن المعضلة؟ وإلا فإن استقالته ستظلّ معلقة في فضاء الغموض، وتفقد مصداقيتها الأخلاقية والسياسية.
فالشفافية مطلب، والوضوح فضيلة، والمسؤولية لا تقبل التجزئة.