*- شبوة برس - حافظ الشجيفي
في خضم التجاذبات السياسية الراهنة، وعلى وقع التحديات المصيرية التي تواجه القضية الجنوبية، يبرز تساؤل جوهري حول مستقبل هذه القضية في حال تعرض الكيان السياسي الأبرز الذي يمثلها لانتكاسة أو فشل. والمراهنة التي يعقدها البعض على أن إخفاق المجلس الانتقالي الجنوبي – لا قدر الله – قد يعني نهاية المطاف للقضية الجنوبية أو تراجع الشعب في تحقيق أهدافه السامية هي مراهنة خاسرة بكل المقاييس. فهذا التصور لا ينم إلا عن قصر نظر، وغياب إدراك عميق لطبيعة الصراع وجوهر الإرادة الشعبية.
ولا شك أن المجلس الانتقالي الجنوبي يمثل ثمرة نضال طويل وتضحيات جسام للشعب الجنوبي، وهو مكسب وطني لا ينبغي التفريط فيه، وكيان سياسي وجماهيري فوضه الشعب بتمثيل قضيته واستعادة دولته. وقد قطع المجلس شوطاً لا يستهان به حتى الآن على طريق تحقيق الأهداف التي يتبناها، محققاً حضوراً سياسياً ودبلوماسياً وعسكرياً لا يمكن إنكاره. إلا أن الاعتراف بهذه الحقائق لا يلغي حقيقة أخرى أعمق وأكثر رسوخا بان المجلس الانتقالي هو مجرد حامل للقضية، وليس القضية نفسها؛ وممثل للشعب، وليس الشعب ذاته.والكيانات السياسية، بطبيعتها، تخضع لسنن النجاح والإخفاق، والتقدم والتأخر. فالمجلس الانتقالي، كأي كيان سياسي في العالم، قد يمر بلحظات قوة وضعف، وقد يواجه تحديات قد تؤثر على مسيرته. ولكن حتى لو افترضنا جدلاً، وهو أمر مستبعد في ظل الإصرار الشعبي والجهود المبذولة، أن المجلس الانتقالي قد فشل في تحقيق اهدافه أو حتى أعلن انسحابه، فإن القضية الجنوبية لن تفشل، ولن تتأثر بذلك الفشل. ذلك لأن القضية ليست رهينة كيان أو شخص، بل هي عقيدة متجذرة في وجدان الشعب، وحق أصيل لا يسقط بالتقادم، وتطلعات مشروعة لشعب عانى وناضل وقدم التضحيات الجسام من أجلها. فإرادة الشعب الجنوبي، التي هي المحرك الأساسي للقضية، عصية على الانكسار، وستبقى متقدة حتى تحقيق كامل أهدافها.
وعلى المنوال ذاته، فإن تخاذل العالم كله أو صمته المطبق تجاه حق الشعب الجنوبي في الاستقلال واستعادة دولته، لا يمكن بحال من الأحوال أن يؤثر على عزيمة هذا الشعب أو يكسر إرادته. فإرادة الشعب الجنوبي لا تقوم على مواقف الدول أو حسابات المصالح الدولية، بل على إيمان لا يتزعزع وقناعة لا تتضعضع بحقه التاريخي والقانوني في استعادة دولته كاملة مكملة، كما كانت قبل عام 1990. فالتاريخ يشهد أن قضايا الشعوب العادلة لا تموت ببرود المواقف الدولية، بل تزداد اشتعالاً كلما حاول العالم تجاهلها، فالحق أبلج وإن طال الأمد.
أما من يظنون أن الحروب الخدمية والاقتصادية الممنهجة التي تمارس على الشعب الجنوبي، من قطع للرواتب، وشح في الخدمات الأساسية، وتدهور معيشي، ستنجح في كسر إرادته وتركيعِه، فهم مخطئون تماماً. بل إن هذه الضغوط، وعلى الرغم من قسوتها، غالباً ما تتحول إلى وقود يذكي جذوة الإصرار، ويعمق التمسك بالحقوق، ويكشف زيف ادعاءات من يمارسونها. فهي تزيد الشعب الجنوبي قناعة بأن استعادة دولته هو السبيل الوحيد للخلاص من هذه المعاناة، وتوقد فيه روح التحدي والصمود، وتحوله من مستهدف للضغوط إلى قوة دافعة نحو التحرير والاستقلال.
وليس هذا فحسب، فمهما بلغت قدرات "قوى الاحتلال" العسكرية من قوة وجبروت، ومهما بدا حجم التفاوت في الموارد والعتاد أمام ضعف الشعب الجنوبي الظاهري، فإن ذلك لا يمكن أن يجعله يقبل بأي حلول لا يكون الاستقلال الكامل للجنوب أولوية قصوى فيها. فالتاريخ الإنساني، والقرآن الكريم ذاته، يزخران بالقصص التي تؤكد أن النصر ليس حكراً على الأقوى عتاداً وعدداً، بل على الأقوى إيماناً وحقاً. فـ "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله". وكما يقول المثل الشعبي اليمني الشائع، الذي هو حكمة الأجداد وخلاصة تجاربهم: "من قال حقي غلب". أي أن صاحب الحق لا يمكن أن يُهزم على المدى الطويل، ولا يضيع حق وراءه مطالب.
خلاصة القول، إن القضية الجنوبية ليست مجرد مشروع سياسي يمكن أن ينجح أو يفشل، بل هي قضية وجود وهوية وحق تاريخي لشعب عظيم. إنها متجذرة في عمق الوعي الجمعي الجنوبي، وتغذّيها إرادة لا تلين، وقناعة لا تتزعزع، وتضحيات لا تحصى. والكيانات السياسية قد تكون أدوات أو وسائل، ولكنها ليست الغاية بحد ذاتها. ومهما تعثرت هذه الأدوات أو واجهت تحديات، فإن جوهر القضية، وإرادة الشعب، وعزيمته على استعادة دولته، ستبقى أقوى من كل الضغوط، وأبعد من كل الكيانات، وأكثر رسوخاً من كل الرهانات الخاسرة. إن شمس الاستقلال ستشرق حتماً على الجنوب، لأن الحق يعلو ولا يُعلى عليه.