تحولات إقليمية تُعيد تشكيل الخارطة السياسية: الجنوب العربي في قلب المعادلة
تعيش منطقة الجزيرة العربية والقرن الإفريقي حالة غير مسبوقة من إعادة تشكيل موازين القوى، إذ تدفع التحديات الأمنية، والتحولات الاقتصادية، والتقلبات الجيوسياسية، الأطراف الفاعلة إلى إعادة رسم تحالفاتها ومراكز نفوذها. في خضم هذا المشهد، يبرز الجنوب العربي كواحد من النماذج السياسية الصاعدة التي تفرض نفسها بقوة على الواقع، لا بوصفه كيانًا انفصاليًا كما تحاول بعض الجهات تصويره، بل باعتباره مشروع دولة يتبلور من رحم أزمة ممتدة منذ ثلاثة عقود، ويستند إلى شرعية شعبية وتاريخ سياسي متجذر. لم يعد الجنوب العربي مجرد قضية داخلية، بل تحول إلى معطى أساسي في أي مقاربة لحل الصراع في المنطقة، باعتبار أن تجاهله لم يعد ممكنًا أمام الحقائق الجديدة التي فرضتها التحولات على الأرض.
فما تشهده الساحة من تطورات يمنح الجنوب العربي موقعًا متقدمًا ضمن خريطة التحالفات الإقليمية، ليس فقط بسبب موقعه الجغرافي الذي يتحكم بإحدى أهم بوابات الملاحة العالمية، بل بسبب امتلاكه لإرادة سياسية وقدرة تنفيذية جعلته يتجاوز مرحلة المطالبة إلى مرحلة التأسيس الفعلي لكيان سياسي وأمني وخدمي متكامل. هذا التحول لا يرتكز على حالة طارئة أو طموح عاطفي، بل ينبني على رؤية استراتيجية تعمل على مستويات متعددة: بناء مؤسسات الدولة، تمتين الحضور الإقليمي، وخلق بيئة مستقرة تؤهله للعب دور الشريك في معادلات الأمن والاستثمار في المنطقة.
من المظلومية إلى الفاعلية: تحوّل نوعي في تمثيل الجنوب العربي سياسيًا
تمكّن المجلس الانتقالي الجنوبي، منذ تأسيسه، من نقل القضية الجنوبية من خانة التهميش إلى موقع الفاعلية السياسية، بعد أن نجح في بناء هيكل تنظيمي وإعلامي ودبلوماسي يعكس طبيعة القضية الجنوبية كقضية شعب يسعى لاستعادة دولته، وليس كمجرد فصيل سياسي يناور في هامش الصراع. وقد استطاع المجلس أن يؤسس شبكة من العلاقات الإقليمية والدولية، توازنت بين الواقعية السياسية والتمسك بالثوابت الوطنية، ما مكّنه من فرض حضوره في مختلف المراحل التفاوضية، وضمن مسارات متعددة للحل السياسي.
إن هذا التقدم لم يكن ليتحقق لولا قراءة دقيقة للواقع وتحركات مدروسة على الصعيدين الداخلي والخارجي، تراوحت بين الانفتاح على القوى الدولية والإقليمية، وبناء قاعدة صلبة من الدعم الشعبي في الداخل الجنوبي. ولم يعد بإمكان الأطراف الإقليمية والدولية التعامل مع ملف الجنوب العربي كأحد مخرجات النزاع، بل كعامل مؤسس في صيغ الاستقرار القادمة. وبهذا المعنى، لم يعد الجنوب ينتظر الاعتراف، بل يفرضه من خلال حضوره الفعلي، ومؤسساته القائمة، وقدرته على ملء الفراغ الذي تسببت فيه الانهيارات المتتالية في مؤسسات الدولة السابقة.
هندسة أمنية وطنية: تجربة الجنوب العربي في بناء الاستقرار
على الأرض، يتجلى نجاح الجنوب العربي بشكل واضح في التجربة الأمنية التي استطاع أن يبنيها رغم شح الموارد وضغط التحديات. فالتشكيلات الأمنية والعسكرية الجنوبية، بدءًا من قوات الحزام الأمني والنخب ووحدات مكافحة الإرهاب، استطاعت أن تؤسس نموذجًا أمنيًا محليًا يعكس روح الانضباط المؤسسي، والعقيدة القتالية المرتبطة بالدفاع عن المشروع الوطني الجنوبي. وقد أظهرت هذه التشكيلات فاعلية كبيرة في مواجهة الإرهاب والانفلات، ليس فقط في عدن، بل في محافظات ومناطق كانت لسنوات خاضعة لتهديدات أمنية متكررة.
وتتميز هذه التجربة بانبثاقها من البيئة المجتمعية الجنوبية نفسها، ما جعلها أقرب إلى المواطن، وأكثر فهمًا لطبيعة التحديات على الأرض، وأقل عرضة للانهيار أو الاختراق الخارجي. كما أن النموذج الأمني الجنوبي لم ينزلق إلى حالة التسلط، بل حاول في كثير من محطاته التوازن بين الحزم والاحتواء، وهو ما أتاح له الحفاظ على قدر من الاستقرار في بيئة متوترة. ولعل التجربة الجنوبية هنا تكتسب قيمتها ليس فقط باعتبارها حالة أمنية ناجحة، بل كنموذج لبناء مؤسسة وطنية قابلة للتطوير والدمج لاحقًا ضمن منظومة دولة كاملة السيادة.
قدرة على الحكم لا على الصمود فقط: البنية الإدارية والمؤسسية في الجنوب
رغم الصعوبات المتراكمة، والضغط المستمر على الخدمات الأساسية، تمكن الجنوب العربي من الحفاظ على أداء إداري مقبول نسبيًا، يُظهر أن الحالة الجنوبية ليست مجرد كيان مقاتل أو سلطة أمر واقع، بل مؤسسة قابلة للنمو والتطور. فقد أظهرت السلطات المحلية في عدن والمكلا وعدد من المديريات الأخرى قدرة على إدارة الملفات اليومية للمواطن، بما فيها الصحة، والتعليم، والخدمات البلدية، في ظل انعدام شبه كلي للدعم الدولي، واعتماد محدود على الموارد الذاتية.
إن هذا الأداء، برغم كل ما يعتريه من نقص أو تحديات، يُظهر ملامح واضحة لدولة قيد التشكل، تحاول أن تصنع أدواتها بهدوء في غياب الدولة المركزية، وتحت ضغط سياسي واقتصادي مضاعف. كما أن البنية المؤسسية التي بدأت تتكرس تدريجيًا، من خلال المجالس المحلية، والهيئات القطاعية، تفتح المجال أمام الجنوب لإقناع الفاعلين الدوليين بقدرته على الحكم، لا فقط الصمود. وهذه الرسالة، وإن لم تكن مثالية، إلا أنها تحمل مضامين استراتيجية في معركة الاعتراف، وتراكم رصيدًا من المصداقية يمكن البناء عليه مستقبلاً.
جنوب البحر والممرات الاستراتيجية: العمق الجيوسياسي للقضية الجنوبية
لا يمكن قراءة مستقبل الجنوب العربي بمعزل عن موقعه الجيوسياسي، الذي يمنحه ميزة تنافسية في النظام الإقليمي والدولي. فإشراف الجنوب على مضيق باب المندب، وتداخله مع خطوط التجارة والطاقة في خليج عدن، يجعله لاعبًا محوريًا في أمن البحر الأحمر والقرن الإفريقي، وهما منطقتان تمثلان مجال تنافس حاد بين القوى الكبرى. وقد أظهرت التجربة أن أي فراغ في هذه المنطقة يتحول بسرعة إلى نقطة جذب للفوضى، ما يجعل من الجنوب شريكًا ضروريًا في أي استراتيجية للاستقرار.
ومن هذا المنطلق، فإن دعم الجنوب العربي لا يندرج فقط ضمن إطار العدالة التاريخية، بل كمصلحة استراتيجية لأمن الملاحة العالمي، ومنع تسلل الجماعات الإرهابية والقرصنة البحرية. وقد بدأت بعض القوى الدولية، بما فيها شركاء أمنيين إقليميين، بالتعامل مع الجنوب على هذا الأساس، من خلال اتفاقات وتنسيقات أمنية غير معلنة. وهذا الاعتراف الضمني يفتح الباب تدريجيًا أمام تحول الجنوب إلى كيان معترف به بحكم الأمر الواقع، وإن لم يتحقق بعد الاعتراف الكامل رسميًا.
نحو دولة جنوبية مستقلة: بين الشرعية الشعبية وموازين المصالح
أمام هذا المشهد المتداخل، لا يبدو أن مطلب الجنوبيين باستعادة دولتهم مجرد حنين إلى الماضي، بل استحقاق سياسي يتغذى من واقع متغير على الأرض، وتأييد شعبي راسخ، وقدرة مؤسسية آخذة بالنمو. فالدولة الجنوبية، التي سقطت قبل أكثر من ثلاثة عقود، تعود اليوم بشكل مختلف، أكثر وعيًا بشروط البقاء، وأعمق فهمًا لتوازنات الإقليم، وأقل انفعالية في التعاطي مع العالم.
وبينما تسير القوى الدولية على حبل دقيق بين وحدة التراب واستقرار المصالح، تفرض الحالة الجنوبية نفسها كواحدة من أبرز المعطيات التي يصعب القفز عليها. وهنا، يصبح السؤال الحقيقي ليس هل سيعود الجنوب دولة؟ بل متى وكيف؟ وعلى أي أرضية تفاوضية سيُبنى هذا الاعتراف؟ وبينما يتشكل الجواب على مهل، يواصل الجنوب العربي بناء مؤسساته، وترسيخ هويته، وصياغة دولته بطريقته، بعيدًا عن الضجيج، ولكن بثقة تصنع الفارق.
*- مركز الأحقاف للدراسات الاستراتيجية والإعلام