الجولاني يمزق القناع الذي يختبئ خلفه أحمد الشرع
سياسات الجولاني، سواء أكانت حمقاء أم تعبيرا صادقا عن منهجيته الفكرية كأحد الأجنحة للإسلام السياسي السني، فتحت بابًا لرياح الطائفية التي من المرجح بلوغها مستويات خطيرة قد تصل إلى درجة الغليان دون معرفة توقيت الانفجار.
*- شبوة برس – سمير عادل : العرب
لم يمضِ أكثر من ثلاثة أشهر على “شهر العسل” أو “النوم في العسل” للواهمين بشأن هيئة تحرير الشام وزعيمها أبومحمد الجولاني الذين ظنوا أنه غيّر جلده وأن ميليشياته، التي شكّل منها جيشًا وأجهزة أمنية، ستعامل جميع السوريين بالمساواة حتى تبددت هذه الأوهام وأسفرت عن وجهها الحقيقي، حيث كشفت مجازر ميليشياته في الساحل السوري و“الإعلان الدستوري” عن استبدال نظام الأسد الإجرامي بنظام ميليشياوي إرهابي ذي طابع قروسطي.
الطبّالون والزمارون، الذين تستضيفهم الفضائيات العربية، وتصريحات الجولاني نفسه الذي يتدثر برداء “سماحة الشرع” وبراءة الذمة، يتحفوننا يوميًا بتبريرات ساذجة لجرائمهم في الساحل السوري، أحدها أن العقوبات الاقتصادية تمنع إحلال الأمن في سوريا، وكأنهم يبعثون برسالة تهديد إلى العالم: “إذا لم ترفعوا العقوبات الاقتصادية، سنقتل المزيد من المدنيين ونخلق موجات جديدة من اللاجئين المتدفقين إلى أوروبا.” أما التبرير الآخر فهو ادعاؤهم أنهم قضوا على النفوذ الإيراني والروسي. لكنهم يتناسون، دون أدنى خجل، وبأسلوب مغرض ومضلل، أنه لولا الدبابة التركية، والمسيّرة التركية، والمخابرات التركية، لما تمكنوا من الوصول إلى سدة السلطة في دمشق، ليستبدلوا بذلك النفوذ الإيراني والروسي بنفوذ تركي خالص.
أما التبرير الآخر فهو الأسطوانة المشروخة التي يكررها قادة ميليشيات الإسلام السياسي الشيعي في العراق عند ارتكاب المجازر، بادعائهم وجود “فلول النظام البعثي”، وهو الوصف الذي يحب أعتى الطائفيين في العراق نوري المالكي الأمين العام الحالي لحزب الدعوة ورئيس الوزراء الأسبق إطلاقه على البعثيين، رغم سقوط نظام البعث منذ أكثر من عقدين. في سوريا تتكرر المسرحية نفسها، فكل جريمة ترتكبها ميليشيات الجولاني تُبرَّر بوجود “فلول نظام الأسد”. يبدو أن الإسلام السياسي السني في سوريا ونظيره الشيعي في العراق لا يملكان سوى شماعة “فلول النظام” لتبرير جرائمهما، والمفارقة أن هؤلاء “الفلول” ينتمون إلى حزب البعث نفسه بشقَّيه السوري والعراقي. وهذا يكشف عن عبثية الخطاب السياسي لكلا الجناحين الإسلاميين في محاولاتهما تبرير المجازر الطائفية.
*- الطبّالون والزمارون، الذين تستضيفهم الفضائيات العربية، وتصريحات الجولاني نفسه الذي يتدثر برداء "سماحة الشرع" وبراءة الذمة، يتحفوننا يوميًا بتبريرات ساذجة لجرائمهم في الساحل السوري
على المستوى الدولي، هناك مسألتان تستحقان التوقف عندهما: أولًا، البيان الخجول الصادر عن مجلس الأمن بشأن ما جرى في سوريا يعكس حجم النفاق الدولي تجاه ميليشيات الجولاني، التي سقط عنها القناع أمام العالم بفظائعها، والتي لا تختلف عن جرائم إسرائيل في غزة، أو الصرب تجاه المسلمين في البوسنة، أو مذابح رواندا، أو عمليات الأنفال لنظام صدام حسين ضد الأكراد، أو حتى جرائم النازيين خلال الحرب العالمية الثانية. لكن البيان اكتفى بمطالبة الجولاني بمحاسبة ميليشياته! أليس هذا استخفافًا بالعقول وتواطؤًا ضمنيًا لإبقاء الجولاني في المشهد السياسي؟
لو كان نظام الأسد هو من ارتكب هذه المجازر، لكان الغرب الرسمي قد أقام الدنيا ولم يقعدها، وصدرَت عشرات القرارات الدولية ضده. لكنهم لا يستطيعون اتخاذ الموقف نفسه هنا، ليس فقط بسبب براعتهم في النفاق السياسي، بل لأنهم أنفسهم هم من بادروا بالحج إلى دمشق لإضفاء الشرعية على سلطة الإرهابيين مكان المجرمين في دمشق.
أما المسألة الثانية فهي “الإعلان الدستوري” الذي أسقط كل الأقنعة، وفضح زيف الأوهام التي روّج لها الجولاني. فبعيدًا عن كونه تكريسًا لدكتاتورية إسلامية سافرة، يمنح الجولاني منصب “رئيس الجمهورية” ليصبح فوق القانون والمحاسبة، فإن روحه لا تختلف عن دستور نظام الأسد، حيث يُعرِّف سوريا كـ“جمهورية عربية”، ويحدد الإسلام كمصدر للتشريع. وهذا ينسف كل الادعاءات بأن السلطة الحالية هي “نتاج الثورة”، ويؤكد أنها في الواقع نتيجة صراع جيوسياسي وتآمر دولي، شاركت فيه قوى إقليمية مثل تركيا وقطر وإسرائيل، وقوى دولية مثل الولايات المتحدة، بتواطؤ روسي. وكأننا أمام تكرار للمثل القائل “كأنك يا أبوزيد ما غزيت”، بمعنى أن الوضع لم يتغير، إذ يستمر الإقصاء الممنهج لحقوق القوميات والأعراق والنساء، تمامًا كما كان الحال في ظل حكم الأسد.
ما يزيد المشهد قتامة وانعدام أي أفق فيه هو أن القوى السياسية المحلية تلهث وراء مصالحها الضيقة، متجاهلة المشهد الكارثي. وراحت تمسك بقبعتها كي لا تطيرها الرياح التي عصفت بها الجرائم البشعة في الساحل السوري لميليشيات الجولاني، والتي بدت كأنها تنفيذ ممنهج لنموذج سلطتها في إدلب في تصفية المعارضين بطرق أكثر وحشية. كما جاء “الإعلان الدستوري” متزامنًا مع هذه المجازر، لإضفاء الشرعية السياسية على خطوات سلطة الجولاني بوصاية تركية واضحة.
وبدلاً من الدفع نحو مشروع سياسي جامع، يتجه الجميع إلى الاحتماء بقبعاتهم الطائفية والقومية، سواء كانوا دروز السويداء أو الميليشيات الموجودة في درعا أو قوات سوريا الديمقراطية، أو حتى العلويين في الساحل السوري. وبدلًا من السعي إلى بناء سوريا كدولة حديثة غير قومية وغير دينية، دولة علمانية تقوم على المواطنة والمساواة، يواصلون التقوقع داخل هوياتهم الضيقة، والبحث عن حماية إقليمية أو دولية.
وفي النهاية أيًا كانت حسابات الجولاني، سواء كان مطمئنًا إلى الاعتراف الدولي بحكومته الإجرامية، أو يراهن على غياب البديل السياسي للغرب في صراعه الجيوسياسي لطرد روسيا من المنطقة، أو يسعى إلى السيطرة على ملف الهجرة واللاجئين فإن سياساته، سواء أكانت حمقاء أم تعبيرا صادقا عن منهجيته الفكرية والسياسية كأحد الأجنحة للإسلام السياسي السني، قد فتحت بابًا لرياح الطائفية التي أقل ما يمكن توقعه منها هو مفاقمتها الاحتقان الطائفي إلى مستويات خطيرة قد تصل إلى درجة الغليان دون معرفة توقيت الانفجار. لقد انتهت مرحلة الأقوال، وكشفت أحداث طرطوس واللاذقية عن بشاعة الأفعال.