*- شبوة برس - فايننشال تايمز البريطانية
مر أكثر من عقد منذ أن اندس أحمد الشرع داخل المصعد الضيق الذي صعد به إلى شقة والديه في الطابق العاشر.
لم يتغير المبنى ذو الطراز السوفيتي كثيرًا منذ آخر مرة رآه فيها، ولا يزال يطل على سلسلة من المباني الخرسانية المتطابقة والبقع المهملة التي تفصل بينها.
كانت الممرات بنفس الظل الأبيض الرمادي الذي كانت عليه عندما كان طفلًا، وإن كانت تحمل الآن آثار الزمن بعد سنوات من الصراع المدني والأزمة الاقتصادية.
كان الشرع قد وصل إلى دمشق فاتحًا قبل بضع ساعات، يقود جيشًا من المتمردين إلى عاصمة اجتاحها حلفاؤه بالفعل.
انهارت القوات الموالية لديكتاتور سوريا بشار الأسد، أمام تقدمهم، مما أتاح للشرع أن يصل إلى السلطة دون إراقة دماء في صباح أحد أيام الشتاء القارس في ديسمبر 2024.
كان أول ما فعله الشرع بعد وصوله هو التوجه إلى تلة عشبية، حيث سجد لله، بينما كان مسدسه يبرز من حزامه وهو يخفض جبهته إلى الأرض.
تم توثيق اللحظة بالفيديو وتوزيعها على نطاق واسع، لتأكيد سقوط دمشق ثم توجه إلى المسجد الأموي التاريخي في المدينة والكاميرات تتبعه، ليعلن أن عصر الأسد انتهى أخيرًا بعد أربعة عشر عامًا من الحرب.
كانت هذه لحظات نصر موجهة للجمهور، أما رحلته عبر المدينة إلى الشقة القديمة في حي المزة، فلم تكن كذلك.
لقد عاد إلى منزله دون كاميرات أو حاشية كبيرة، بل برفقة عدد قليل من الحراس الشخصيين.
كان العديد من سكان العاصمة قد فروا إلى الساحل بحثًا عن الأمان النسبي بحلول ذلك الوقت، بينما كان آخرون يحزمون أمتعتهم على عجل، في ظل انتشار المسلحين بسيارات مغطاة بالطين يجوبون شوارع المدينة.
عند خروجه من المصعد مرتديًا زيه العسكري، طرق الشرع باب الشقة، وكانت عائلة سليمان قد انتقلت إليها مؤخرًا بعد أن منحها النظام لهم، والآن، كانوا يرمون متاعهم في صناديق وأكياس، محاولين المغادرة بأسرع وقت ممكن، وفوجئوا برؤية الرجل الذي أصبح الحاكم الفعلي لسوريا.
يقول احد معاونيه، في رواية أكدها لاحقًا أحد الجيران "قال لهم الشرع بلطف: ’لا تتعجلوا.. خذوا وقتكم.. لكن هذا منزل عائلتي، ولدينا فيه ذكريات كثيرة، لذا نرغب في استعادته الآن،‘”.
لم يرفع الشرع صوته كما ابلغني الجار، بل “أعطاهم وقتًا كافيًا لحزم أمتعتهم والمغادرة”.
يحتل حي المزة، الذي يقطنه خليط ديني من الطبقة المتوسطة العليا، مكانة بارزة في ذاكرة طفولة الشرع.. هنا لعب كرة القدم وهو طفل، وعمل بعد الظهر في متجر بقالة عائلته، وانخرط في نقاشات لا تنتهي حول السياسة مع والده ووالدته وإخوته الستة، وهنا أيضًا، علموا بأنه تخلى عن دراسته ليقاتل ضد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003.
كانت عائلته تظن انه مات منذ زمن طويل بحلول وقت عودته.
عندما أعلن الشرع نفسه رئيسًا لسوريا الجديدة هذا العام، كان ذلك تتويجًا لمسيرة قادته من زنازين سجن أبو غريب في العراق إلى جبال شمال غربي سوريا.
استخدم الشرع عدة أسماء وألقاب على مر السنين، من بينها القائد، والشيخ، والأخ، وكان يلقب نفسه حتى وقت قريب، بـ “الفاتح أبو محمد الجولاني”، وهو اسم حركي يعكس أصول عائلته وطموحه (الفاتح تعني “القاهر” أو “المنتصر”).
كانت الجماعة الإسلامية المسلحة التي يقودها منذ 2011، والتي كانت سابقًا فرعًا من القاعدة، تُعرف باسم جبهة النصرة قبل أن تخفف من توجهها وتصبح هيئة تحرير الشام (HTS)، وهذا يعني أن الشراع قضى معظم العقدين الماضيين في غموض نسبي.
لم تكن أجهزة المخابرات السورية متأكدة من اسمه الحقيقي حتى عام 2016، وكان ذلك العام أيضًا هو الذي كشف فيه الشرع عن وجهه للعامة لأول مرة.
لم يمنح الشرع حتى وقت متأخر سوى مقابلة واحدة متعمقة تطرقت إلى ماضيه، بينما ركزت بقية المقابلات على مستقبله فقط.
ولم يستجب الشراع لطلبات المقابلة العديدة التي أرسلتها له، لكن القلة الذين تمكنوا من سؤاله عن أصوله تلقوا إجابات مقتضبة أو متعمدة الإبهام.
هذا ليس مصادفة، وفقًا لأكثر من 30 شخصًا تحدثت إليهم في إطار هذا التحقيق، بما في ذلك مسؤولون حكوميون حاليون، وضباط استخبارات إقليميون وغربيون، ومقاتلون سابقون، ودبلوماسيون، وأصدقاء، وجيران.
تكشف رواياتهم، إلى جانب وثائق استخباراتية مسترجعة ومراسلات بين الجهاديين، قصة رجل يدرك تمامًا كيف يمكن أن يُنظر إلى ماضيه على أنه يتناقض مع أيديولوجية حركته المتمردة.
كلما تعمقنا في ماضي الشرع، زاد وضوح أن هذا الغموض المدروس لم يسمح له فقط بالبقاء على قيد الحياة لأكثر من عقدين في قلب الحركات الإسلامية المسلحة، بل ساعده على هزيمة الأسد، وقد يكون أيضًا العامل الذي يحدد قدرته على الاحتفاظ بالسلطة عندما يتلاشى وهج النصر الساحق.
ولد أحمد حسين الشرع في أكتوبر 1982 في السعودية، حيث قضى السنوات السبع الأولى من حياته.
يظهر الشرع بنفس التعبير الغامض الخالي من الابتسام الذي يُرى به غالبًا اليوم في صورة نادرة له كطفل، عُثِر عليها في ملف جمعته أجهزة استخبارات الأسد.
تنحدر عائلة الشرع من فِق، وهي منطقة في الجولان المحتل من قبل إسرائيل حاليًا. كان الشراعات من ملاك الأراضي الإقطاعيين الذين، وفقًا لروايات العائلة، يعود نسبهم إلى النبي محمد.
كان جد الشرع تاجرًا معروفًا، شارك في ثورة مسلحة ضد القوات الاستعمارية الفرنسية في جنوب سوريا، أما والده، حسين، فقد سار على خطاه، محتجًا على استيلاء حزب البعث على السلطة عندما كان لا يزال في المرحلة الثانوية.
سُجِن حسين في النهاية ونُفي إلى العراق، حيث التحق بالجامعة، وعندما عاد إلى سوريا بعد سنوات عدة، كانت العائلة قد طُرِدت من فِق على يد القوات الإسرائيلية، ما أجبر الشراع وعائلته على العيش في ظروف أكثر تواضعًا.
ورغم معارضته لحكم عائلة الأسد، أدرك حسين أن بقائه في سوريا يعتمد على التخفيف من حدة خطابه العلني، بعد ان حصل على وظيفة في الدولة وانخرط في السياسة المحلية، لكنه مُنع من التقدم الوظيفي بسبب ماضيه.
انتقل حسين مع أسرته الصغيرة إلى السعودية لفترة من الزمن، حيث عمل في وزارة النفط لمدة عقد، ونشر كتبا عدة بشأن اقتصاديات النفط في الخليج، إلى جانب مقالات جدلية في الصحف الإقليمية.
بعد عودتهم إلى دمشق، اعتاد والدا الشرع تذكير أبنائهما الخمسة وبنتيهما بأنهم، كأبناء لمسؤول حكومي، مُطالَبون بالتحلي بالانضباط، وكان الشرع وإخوته في الغالب على مستوى هذه التوقعات العالية وفقًا لجيران وأصدقاء الطفولة.
يتذكر أصدقاء وجيران الشرع حياته وهو شاب بانه كان يتميز بذكائه الشديد والهدوء، وهي صفات لا تزال تُنسب إليه اليوم.
رغم أن عائلته لم تكن متدينة بشكل خاص، كان الشرع معروفًا بتدينه أكثر من أصدقائه.
قال أحد أصدقاء الطفولة: “كنا جميعًا نصلي، لكنه كان يحرص على الذهاب إلى المسجد"، وأضاف: “كان والدانا سعداء جدًا لأن لدينا صديقًا متدينًا، وكانوا دائمًا يقولون إن عقل أحمد كان أنضج من عمره، وكانوا يأملون أن يؤثر ذلك علينا".
روى هذا الشخص قصة عن كيف حاول الشرع، عندما كان مراهقًا، مساعدة صديق ضال “كان يواجه بعض المشاكل ولم يكن لديه علاقة قوية بالله” حيث حاول الشرع إقناعه بأداء العمرة، “ظنًا منه أنها قد تساعده”، وعندما وافق الصديق، جمع الشرع المال اللازم لإرساله.
أكد العديد ممن عرفوه أن علاقته بالدين لم تكن متطرفة، حتى أنه كان يصلي في المسجد الشافعي المحلي، الذي كان يفضله شباب الحي لأن إمامه كان أقل تشددًا من غيره.
لكن مع اقترابه من سن الرشد، تغير العالم من حوله.
كان الشرع يقارب 18 عامًا عندما بدأت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، ثم جاءت هجمات الحادي عشر من سبتمبر وما تبعها من “حرب أمريكا على الإرهاب”، وهي احداث دفعت العديد من الشباب في المنطقة إلى الصحوة السياسية، لا سيما في سوريا، حيث كان الشبان المثاليون والقلقون مثل الشرع يبحثون عن قضية يناضلون من أجلها.
توجه الشرع نحو صف من الحافلات العادية في دمشق قبل حوالي أسبوعين من بدء القصف على بغداد في مارس 2003، حيث كانت الحافلات تصطف عبر الشارع من السفارة الأمريكية، وخارج مسجده المحلي، وفي ساحة العرض بدمشق لأسابيع، وكانت تمتلئ بالمتطوعين من جميع أنحاء العالم العربي، المتجهين إلى العراق لحمل السلاح ضد التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة.
قرر الشرع، الذي كان يبلغ من العمر عشرين عامًا في ذلك الوقت، الانضمام إليهم، وصعد إلى الحافلة، محاطًا بأشخاص آخرين متحمسين للقتال، وعبر الصحراء في غضون ساعات إلى البلد الذي سيقضي فيه معظم السنوات الثماني التالية.
قال أحد أصدقائه في الطفولة: “اختفى بين ليلة وضحاها، ولم نره مرة أخرى أبدًا".
كان الشرع قد تأثر بصديق أكبر سنًا في مسجده، والذي تأثر بدوره بخطباء متشددين ازداد نفوذهم مع تصعيد واشنطن لحجتها لغزو العراق.
في ذلك الوقت، انتقل خالد مشعل، الزعيم السابق لحركة حماس، وعدد من الناشطين الآخرين إلى دمشق وبدأوا في الحضور إلى نفس المسجد، مما أضفى عليه طابعًا إسلاميًا أكثر تشددًا، وفقًا لأشخاص عاشوا هناك آنذاك الذين أضافوا أنه قبل مغادرته، بدأ الشرع في ارتداء الجلابية—وهي ثوب فضفاض طويل يصل إلى الكاحل يرتديه الرجال في المناطق الريفية—وأصبحت لحيته أطول، وقد تكون هذه إشارات إلى اهتمام متزايد بالسلفية، وهي حركة إحيائية أصولية داخل الإسلام السني.
بمجرد عبورهم الحدود، استقبلهم جنود عراقيون موالون لصدام حسين، وقدموا لهم بضعة أيام من التدريب على الأسلحة، وكانوا لا يزالون يتدربون عندما سقطت بغداد.
يقول حسام جزماني، الخبير السوري في شؤون الجهادية، ان المجندين السوريين صدموا عندما رأوا العراقيين يحتفلون بسقوط صدام، مما جعله موقفًا محيرًا لأولئك الذين جاؤوا للدفاع عن العراق.
عاد الشراع إلى دمشق بعد فترة وجيزة، لكنه لم يعد مرحبًا به في منزله في المزة، بعد خلافه مع والده، وفقًا لوثائق استخباراتية سورية، لينجذب إلى الدوائر الإسلامية، بالتزامن مع تحول التمرد العراقي من مقاومة بعثية إلى جهادية، وعندما عاد إلى العراق عام 2005، كان ذلك للانضمام إلى تنظيم سلفي جهادي اندمج لاحقًا مع تنظيم القاعدة، وأوضح الشراع لاحقًا أنه أراد فهم مفهوم “الحرب الشاملة”، لاستخلاص الدروس التي قد يعود بها إلى سوريا يومًا ما.
العديد ممن عرفوا الشرع في العراق إما قُتلوا، أو اختفوا، أو أصبحوا موالين للغاية بحيث لا يناقشون ماضيه دون إذن.
تحدث الشرع عن وقته هناك وعن ارتباطه بالقاعدة بحذر شديد، على الأرجح لأن هذا الجزء من تاريخه هو الأكثر حساسية بالنسبة لأي حلفاء غربيين محتملين.
سأله روري ستيوارت، الدبلوماسي البريطاني السابق الذي دعم غزو العراق وعمل لصالح سلطة الاحتلال المؤقتة هناك، عن تلك الفترة خلال مقابلة في بودكاست في أوائل فبراير، وتجنب الشرع الإجابة بإصرار، مما دفع ستيوارت إلى التعليق على مدى “غرابة” لقائهما، بالنظر إلى أنهما كانا خصمين في الماضي.
في ذلك الوقت، استهدفت الجماعات المسلحة الوليدة مسؤولين أمميين وسفارات أجنبية ومسؤولين عراقيين، ما أسفر عن مقتل وإصابة العديد من المدنيين. كما بدأت باستهداف الكنائس وأماكن العبادة الشيعية. أصرّ الشراع على أنه لم يشارك في أي أعمال أضرت بالمدنيين في العراق، لكن خبراء وأشخاصًا يعرفونه يشيرون إلى أن ذلك يبدو غير مرجح.
بعد بضعة أشهر فقط من بداية جولته الثانية في العراق، ألقت القوات الأمريكية القبض على الشرع، كان وقتها يستخدم هوية مزيفة، لكنه اجتاز اختبار اللهجة الذي يستخدمه المحققون العراقيون والأمريكيون لفرز المقاتلين الأجانب، وأمضى بعدها قرابة ست سنوات في بعض أسوأ سجون العراق سمعة، بما في ذلك سجن أبو غريب ومعسكر بوكا.
أصبح بوكا معروفًا لاحقًا بأنه كان بيئة خصبة لنشوء جيل من القيادات الجهادية، أبرزهم زعيم تنظيم داعش المستقبلي، أبو بكر البغدادي.
دخل الشرع نظام الاحتجاز وهو في مرتبة متدنية ضمن التسلسل الهرمي الجهادي، ويقول جيمس جيفري، الذي شغل منصب السفير الأمريكي في العراق قبل أن يصبح مبعوثًا خاصًا لسوريا بين عامي 2018 و2020: “كان مجرد شخصية هامشية”، مضيفًا: “كان لدينا الآلاف من هؤلاء الرجال”، لكن الأسر كشفه للأمريكيين، ويقول جيفري: “يتم استجوابك باستمرار، ستسمع وترى كيف يعاملونك، سترى أساليبهم، ستدرسهم”، مشيرًا إلى أن التجربة كانت حاسمة بالنسبة له.
في الوقت ذاته، كان الشرع غارقًا في عالم الإسلاميين المتشددين، حيث كانت النقاشات حول الاستراتيجيات والتكتيكات لا تتوقف، ونتيجة لذلك، تمكن من التقرب إلى شخصيات قيادية في القاعدة.
كتب أحد زملائه في السجن لاحقًا أن الشرع “كان يقرأ ويدرس كثيرًا”، لكنه كان هادئًا للغاية، لكنه سرعان ما بدأ بالضغط على القادة للتوسع نحو سوريا.
في منتصف ليلة من أغسطس 2011، عبر الشراع وستة من عناصر القاعدة الحدود من العراق إلى سوريا.
كان هولاء الرجال قد اعتنوا كثيرا بمظهرهم، حيث قاموا بتشذيب لحاهم بعناية لتجنب لفت الانتباه، ثم قاموا بربط المتفجرات على صدورهم تحسبًا لفشلهم في اجتياز الحدود.
كانت الليلة شديدة الحرارة خلال شهر رمضان، لكنهم شقوا طريقهم عبر الصحراء، متجاوزين الأسوار والخنادق المنتشرة على طول الحدود وكانوا مصممين على المساهمة في تشكيل مستقبل سوريا.
أُطلِق سراح الشرع من السجن قبل بضعة أشهر، لكن كيفية حدوث ذلك لا تزال غير واضحة.
كانت الاحتجاجات في سوريا المستلهمة من الربيع العربي، لا تزال سلمية نسبيًا في ذلك الوقت.
متشجعا من الاتصالات التي أقامها أثناء احتجازه، أرسل الشرع رسالة إلى البغدادي، عارضًا رؤيته الأكثر تطرفًا لسوريا، كان الشرع بين قلة من السوريين داخل التنظيم في ذلك الوقت على الرغم من معارضة بعض المقربين من البغدادي له.
طلب الشرع مئة رجل ومبلغًا كافيًا من المال لبدء نشر الحركة ولكن لم ينضم إليه سوى ستة رجال وفقًا لروايته، من بينهم سوريان، فيما قدم البغدادي ما بين خمسين وستين ألف دولار شهريًا لمدة ستة أو سبعة أشهر.
كانت العلاقة بين الاثنين متوترة منذ البداية وتصاعدت إلى حرب شاملة في غضون عامين.
قُتل البغدادي في عام 2019 عندما فجّر نفسه بحزام ناسف أثناء محاولة القوات الخاصة الأمريكية القبض عليه.
وصف الشرع كفيله السابق بأنه غير متطور سياسيا وغير مثير للإعجاب، وأدان وحشيته بشدة، وقد تبدو هذه الادعاءات مريحة اليوم، لكن الرسائل التي حصلت عليها، والتي كتبها عناصر من داعش منذ عام 2013، تشير إلى أن الشرع والبغدادي كانا على خلافات أيديولوجية كبيرة.
كان الشراع يدرك أنه بحاجة إلى تمويل البغدادي وشبكته لتحقيق النجاح رغم اختلافاتهما الايدولوجية.
لم يتمكن فريق الشرع المكون من سبعة أشخاص من التجنيد بفعالية في دمشق في البداية، ثم انتقلوا إلى جبال إدلب، وهي محافظة شمال غربي سوريا تُعتبر من أكثر المناطق محافظة.
بدأ الرجال بالانضمام إليه، مستوحين الثقة التي كان يظهرها، وبعد عام، نما عدد قواته إلى حوالي خمسة آلاف مقاتل، وساعدت الأموال القادمة من البغدادي في دفع الرواتب وشراء أسلحة من الدرجة الثانية.
في يناير 2012، أعلن الشرع أن مجموعته ستُعرف باسم “جبهة النصرة لأهل الشام”، في تسجيل صوتي مدته ثماني دقائق لم يذكر فيه القاعدة.
كان هذا القرار مدروسًا لتجنب نفور الجمهور السوري الذي كان متوجسًا من الإسلاميين.
غادر الشراع والمرأة التي تزوجها سرًا هناك دمشق قبل نهاية العام، وبدأ التنقل بين المناطق التي تسيطر عليها النصرة في شمال سوريا.
وقال عدة أشخاص عرفوه في ذلك الوقت إنه كان منضبطًا للغاية، وحافظ على مستوى منخفض من الظهور، وكان دقيقًا في تفاصيل ساحة المعركة.
سرعان ما اكتسبت النصرة سمعة باعتبارها القوة القتالية الأكثر فاعلية وانضباطًا ومهارة بين فصائل المعارضة السورية، كما نفذت بعضًا من أكثر الهجمات جرأة ووحشية ضد قوات النظام، وساهمت في جذب المقاتلين من خلال تصوير العديد من عملياتها.
قال لي أحد قادة الجيش السوري الحر في شمال سوريا خلال تلك الفترة: “لم يكن أي منا مقاتلًا محترفًا، ولم نكن نعرف دائمًا ما الذي نفعله، لذلك، عندما كنا نشارك الجبهة مع مقاتلي النصرة، كانوا يأتون، يتولون العملية، ينفذونها بإتقان، ثم يختفون. كنا نسميهم الأشباح”.
سرعان ما صنفت واشنطن النصرة كمنظمة إرهابية أجنبية، متهمة إياها بتنفيذ ستمائة هجوم خلال عامها الأول، بما في ذلك أكثر من أربعين تفجيرًا انتحاريًا وهجمات بعبوات ناسفة في مراكز المدن أسفرت عن مقتل مدنيين، كما نسبت وكالات الاستخبارات الإقليمية في ذلك الوقت عشرات الهجمات ضد المدنيين إلى النصرة.
عندما بدأت المجموعة في إعادة توجيه عملياتها للتركيز بشكل أساسي على الأهداف العسكرية، كان ذلك لأن الشرع أدرك أن أساليب القاعدة كانت منفرة للعديد من المسلمين.
قال صحفي مقيم في إدلب، وهو من بين القلائل الذين غطوا أخبار الشرع لفترة طويلة: “لقد كانوا يحاولون بناء قاعدة، لذلك لم يكونوا عدوانيين للغاية مع الناس”، وأضاف أن المجموعة لم تحاول في البداية فرض قوانين اللباس والسلوك في المناطق التي سيطرت عليها، وأوضح قائد في الجيش الحر: “كانوا يحاولون التأثير بدلًا من الفرض”.
كان الصراع بين الشرع والبغدادي يمثل مشكلة مستمرة للنصرة، وتفاقم بسبب مجموعة من القضايا.
كان منظور البغدادي قائمًا على القضاء على الدول العلمانية واستبدالها بدولة إسلامية أو خلافة، وكان على الشراع أن يظهر التزامه بهذا المنظور للحفاظ على المقاتلين الأجانب داخل النصرة، لكنه كان يدرك أيضًا أن أساليب البغدادي لا يمكن تطبيقها بحذافيرها في سوريا، نظرًا للطبيعة الأكثر اعتدالًا للمعارضة الشعبية للأسد.
وقع الانفصال الرسمي في عام 2013، عندما أعلن البغدادي عن خطة لدمج مجموعته مع النصرة دون استشارة الشرع، الذي سارع إلى رفض الخطوة.
بايع الشراع سلطة أعلى، وهي القاعدة للحفاظ على شرعيته وإبقاء جيشه من الأتباع، الذين كان الكثير منهم يقاتلون من أجل إقامة الخلافة الإسلامية وليس بالضرورة من أجل سوريا حرة، وابلغ الشراع الباحث جيروم دريفون، الخبير في الحركات الجهادية وأحد مؤلفي كتاب قادم عن هيئة تحرير الشام، بأنه “لم يكن لديه خيار آخر… حتى لا يخسر رجاله”، وهو أمر يعترف خصومه به ايضاً.
أطلق البغدادي حملة عنف دينية لا سابق لها، مما جعل النصرة تبدو أكثر اعتدالًا بالمقارنة بها، حيث فرض قواعد صارمة على اللباس وعقوبات قاسية على المخالفات البسيطة، ما جعل الحياة في المناطق التي يسيطر عليها لا تُطاق.
وبدأ مقاتلو الشرع الأكثر تشددًا، الذين جذبهم مشروع خلافة البغدادي، في مغادرة النصرة، واندلعت معارك عنيفة بين المجموعتين، وأجبر ذلك الشرع على التكيف والتفكير في الدور الذي ينبغي أن تلعبه مجموعته خارج ساحة المعركة.
أعاد الشرع بناء صفوف النصرة خلال العام التالي، وسعى إلى تعزيز علاقتها بالسكان المحليين، من خلال توفير الوقود للمخابز وتوزيع الألعاب على الأطفال ايضاً.
لكن محاولة النصرة للحكم لم تكن حميدة تمامًا، وفقًا للعديد من المدنيين في إدلب والفصائل المتمردة المنافسة والعاملين في المنظمات غير الحكومية، فقد تعامل الجهاديون الأجانب في المجموعة مع السكان المحليين غالبا بقسوة أكبر من السوريين في الغالب، مما أثار الخوف على نطاق واسع، واضطهدوا الأقليات المنتشرة في شمال سوريا، وتعرضت المجتمعات المسيحية والدرزية، وخاصة على أيدي المقاتلين الأجانب المتشددين، للمضايقات، ولم يعد يُسمح لهم بأداء طقوسهم الدينية علنًا، وصودرت أراضيهم، وفي بعض الحالات أُجبروا على اعتناق الإسلام أو قُتلوا، وتعرض العاملون في المنظمات غير الحكومية للمضايقات والاحتجاز باعتبارهم جواسيس أجانب، كما تعرضت النساء والفتيات لضغوط لارتداء ملابس أكثر تحفظًا، وأُجبرت بعضهن على ترك وظائفهن كطبيبات وقاضيات.
فرضت محاكم النصرة عقوبات، بما في ذلك تنفيذ عمليات إعدام بين الحين والآخر، وفقًا للشريعة الإسلامية القديمة على جرائم مثل القتل والعلاقات خارج الزواج والردة، وفقًا لأبحاث جيروم دريفون، ولكن النصرة تجنبت، تنفيذ إعدامات علنية على عكس داعش.
ونتيجة لذلك، شدد المجتمع الدولي موقفه تجاه المجموعة، وفُرضت عليها عقوبات من قبل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول الغربية، ورصدت واشنطن مكافأة قدرها عشرة ملايين دولار مقابل رأس الشرع، وتراجع الشرع أكثر إلى الظل، وكان عدد قليل من الناس يعرفون أين ينام، وكان عدد أقل يعرف أي شيء عن هويته الحقيقية، وبينما بدا أن البغدادي يستمتع بالأضواء، كان الشرع يبتعد عنها.
ركز الشرع على تحالفاته العسكرية الهشة على مدى السنوات التالية، وعندما سنحت له الفرصة، دمر المجموعات المتمردة التي اعتُبرت تهديدًا لهيمنته.
اكتسب معجبين وخصومًا على حد سواء، واشتهر بكونه مفكرًا يتمتع بالكاريزما، لكنه كان معروفًا أيضًا بالمراوغة والقسوة.
يقول أحد المقاتلين المتحالفين معه، والذي كان سابقًا خصمًا له: “لم يكن لدى الشرع أي مشكلة في سفك الدماء، طالما جُرِّبت حلول أخرى أولًا”.
تجاوزت طموحات الشرع في النهاية حدود النصرة، وكان تصنيفها كمنظمة إرهابية عقبة رئيسية أمام التوسع، مما جعل قادة الفصائل الأخرى حذرين من الاندماج معها.
قطع الشرع صلاته بالقاعدة بالكامل في عام 2016، في خطوة يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها واحدة من أكثر تحركاته الاستراتيجية ذكاءً، وكان ذلك إعادة تموضع تكتيكية سمحت له بتعزيز السيطرة، لكنه كان بحاجة أيضًا للخروج من الظل.
في هذه المرحلة لم يعرف مقاتلو الشرع والجمهور الأوسع الكثير عنه. كانت بياناته المهمة تأتي في شكل رسائل صوتية تُسرب إلى وسائل الإعلام حتى ذلك الوقت، أما توجيهاته الأقل أهمية، فكانت تُنقل إلى دائرته المقربة، الذين كانوا بدورهم ينشرونها ونادرًا ما كان يُرى الشرع علنًا.
يقول أحد قادة الجيش الحر: “كان أشبه بمخلوق أسطوري… كان الناس يتهامسون عنه، ولم نكن متأكدين حتى مما إذا كان سوريًا”.
ظهر الشرع في مقطع فيديو للإعلان عن قطع العلاقات مع القاعدة، ونظر مباشرة إلى الكاميرا هذه المرة، مرتديًا زيًا عسكريًا وعمامة بيضاء وبلحية طويلة، وتبع ذلك مقابلة على قناة الجزيرة.
أصيب أصدقاؤه وجيرانه في الطفولة بالذهول في حي الشرع القديم في دمشق.
قال أحد أصدقائه في الصغر: “كان له نفس وجه الصبي الذي كنت صديقًا له، لكن اسم الجولاني لم يكن مألوفًا لأي منا”، وأضاف: “في البداية لم نعتقد أنه هو، لأن صديقي لم يكن متطرفًا متشددًا، لكنه كان يحمل نفس تعابير الوجه ونفس الصوت، وعندها أدركنا أنه هو”.
لم يكن الصحفيون الجالسون في المسجد البعيد في إدلب متأكدين مما يمكن توقعه بعد ان استُدعي أكثر من 40 منهم في عام 2019 للقاء “رجل مهم” في هيئة تحرير الشام، الاسم الذي تبنته مجموعة الشراع بعد التخلي عن القاعدة.
أصبحت هيئة تحرير الشام بحلول ذلك الوقت، أقوى فصيل متمرد في شمال سوريا، وكان الاسد قد استعاد السيطرة على أكثر من ثلثي الأراضي السورية التي كانت تحت سيطرة المتمردين بدعم من إيران وروسيا، لكن الشرع تمكن من السيطرة على مناطق رئيسية، بما في ذلك معبر حدودي حيوي مع تركيا، كما أنشأت هيئة تحرير الشام كيانًا شبيهًا بالدولة في إدلب، بحكومة يقودها مدنيون ظاهريًا.
كانت هناك تحديات تتمثل في ملايين النازحين، واقتصاد راكد، وتهديدات مستمرة من قوات الأسد وسلاح الجو الروسي، لكن بحلول عام 2019، هدأت المعارك إلى حد ما، مما سمح لهيئة تحرير الشام بالتركيز على حكم إدلب، وقدم ذلك وجهًا عامًا يمكن أن يكون أكثر قبولًا للمجتمع الدولي.
في اجتماع المسجد، فوجئ الصحفيون برؤية الشرع يدخل عليهم. كان الرجل قد بدأ يظهر علنًا بشكل متزايد في العام السابق، كما لو كان سياسيًا يقوم بحملة انتخابية. صنع الفلافل في أحد المطاعم المحلية، وزار السوق خلال عيد الفطر، كما تغير مظهره، إذ أصبحت لحيته أقصر، وتنوعت ملابسه بحسب السياق: زي مدني عند لقاء العامة، زي عسكري عند زيارة الجبهات، وملابس قبلية تقليدية في الاجتماعات الدينية أو العشائرية.
تم تصوير معظم لقاءاته، وتم تحريرها بعناية ونشرها على نطاق واسع، في محاولة لإضفاء طابع إنساني على حركته في نظر الملايين الذين باتوا يعيشون تحت سيطرته، ولكن رغم ذلك كان من غير المعتاد أن يحضر الشرع بنفسه اجتماعًا مع الصحافة، فضلًا عن أن ينظمه بنفسه.
كان العديد من الصحفيين الحاضرين مستائين من تجاوزات الشرع وهيئة تحرير الشام، ورأوا الاجتماع محاولة مكشوفة لكسب تأييدهم، ولم يتردد الصحفيون في التعبير عن مخاوفهم، وفقًا لشخصين حضرا الاجتماع.
قال أحد الصحفيين المقيمين في إدلب، والذي تابع الشرع: “لم تعجبهم رؤيته للدولة، وكان لديهم تساؤلات حول مدى سلطته”، وأضاف: “شعرنا أنه كان يخلق دكتاتورية مثل دكتاتورية الأسد في إدلب، وأردنا أن نعرف من كان يسيطر بالفعل، هل هي الحكومة المدنية أم هيئة تحرير الشام؟”.
لدهشتهم، استمع الشرع بهدوء، وبدا غير متأثر بالانتقادات، وسمح للمجموعة بالتعبير عن مظالمها، وعندما انتهى الاجتماع، قال: “ربما لن أتمكن من إقناعكم اليوم كمجموعة”، وفقًا لما نقله أحد الصحفيين، "لكنني أعدكم، إذا التقيت بكل واحد منكم على حدة، فستغادرون جميعًا مقتنعين بوجهة نظري”.
كان ذلك الاجتماع بداية لاستراتيجية تبناها الشرع في السنوات التالية حيث التقى بمحللين وباحثين مختارين، ومسؤولين غربيين سابقين وحاليين، ودبلوماسيين ومستشارين، وعمّق علاقاته مع تركيا.
في الاجتماعات الأولى، قرأ الشراع ومستشاروه المقربون بيانات طويلة ومربكة تؤكد القطيعة مع القاعدة، لكن مع مرور الوقت، “بدأ حوار فعلي”، كما قال مسؤول غربي سابق بدأ لقاء الشرع ومستشاريه في تلك الفترة، وأضاف: “كنا غالبًا ما نناقش حقوق الإنسان والقانون الدولي وحماية الأقليات والنساء. كنا نختلف كثيرًا، لكن… إذا ناقشنا أسرى الحرب في أحد الاجتماعات، فالمرة التالية كانوا يأتون وقد قرأوا عن اتفاقيات جنيف وأبدوا استعدادًا لتكييف ممارساتهم”.
الشرع وواجهة هيئة تحرير الشام الناعمة كانت المفتاح لتغيير الموقف في واشنطن خلال الولاية الأولى لدونالد ترامب.
وصف جيفري، المبعوث الأمريكي الخاص السابق لسوريا، كيف بدأ في الدعوة إلى وقف إطلاق النار لوقف قصف النظام وروسيا لإدلب، مجادلاً لوزير الخارجية آنذاك مايك بومبيو بأن إدلب لا يمكن أن تقع تحت سيطرة الأسد، وكُتبت له الغلبة في النهاية، في تجسيد لمقولة “عدو عدوي صديقي”، كما قال، وتم التوصل إلى وقف إطلاق نار في عام 2020 أنهى القتال وأتاح لهيئة تحرير الشام مساحة للتنفس.
قال جيفري: “لم نر أي مؤشر على دعم أو تنفيذ عمليات إرهابية دولية”، حيث كان تركيز هيئة تحرير الشام والشرع محصورًا في إدلب والأسد.
بدأ الشرع أيضًا في التواصل مع المجتمعات التي أرهبها مقاتلوه، فبعد سنوات من قمع الكنائس المسيحية المحلية، التي لم يُسمح لأجراسها بأن تُقرع منذ وصول الإسلاميين إلى شمال سوريا قبل عقد من الزمان، التقى الشرع بكبار رجال الدين المسيحيين في عام 2022، وقال لؤي بشارة، الكاهن البارز في الكنيسة الكاثوليكية السورية، الذي التقى الشرع لأول مرة في مطعم للمأكولات البحرية في قرية مجاورة: “طلب منا التحلي بالصبر، وقال إننا سنستعيد حقوقنا، وأمر رجاله بالتوقف عن مضايقة المسيحيين”، وأضاف: “أخبرنا أنه شخصيًا ليس لديه مشكلة مع وجود المسيحيين في إدلب، لكنه طلب منا منحه الوقت، لأنه بحاجة إلى العمل على إقناع المتشددين بقبول ذلك”.
تحسنت العلاقات مع المسيحيين، وأعيدت بعض الأراضي المصادرة، إلا أنهم لا يزالون غير قادرين على ممارسة العبادة علنًا في إدلب، وهو أمر يخضع للمراقبة عن كثب كمؤشر على كيفية تعامل الشرع مع باقي غير المسلمين في سوريا.
وفقًا لعدة شيوخ تحدثت إليهم، لم تُمنح الأقلية الدرزية تعويضات مماثلة عن الأراضي التي استولت عليها هيئة تحرير الشام، وقال الكاهن إنه من الصعب معرفة ما يدور في قلب الشرع، “لكن أفعال الشخص هي التي تظهر ما يفكر فيه حقًا، وهذا هو الأهم. لقد كان واضحًا جدًا: إذا أتاح لي الله [إسقاط الأسد]، فلدي رؤية لسوريا تشمل حقوق الأقليات، والاقتصاد، والعلاقات الدولية - كل شيء”.
كانت لطيفة الدروبي في مزاج مرح، فقد مازحت قائلة خلال اجتماع مع نساء سوريات أمريكيات بارزات الشهر الماضي، إنه “على حد علمها، كانت الزوجة الوحيدة” للشرع، مشيرة إلى زوجها ووالد أطفالها الثلاثة.
كان ظهورها في الاجتماع مفاجئًا تمامًا كما حدث مع الصحفيين في المسجد.
كانوا يعلمون أن الشرع يسعى إلى طمأنتهم بأنه لن يقيّد حقوق المرأة في سوريا الجديدة، لكنهم لم يتوقعوا مقابلة الدروبي، التي كان يُعرف عنها أقل مما يُعرف عن الشرع نفسه.
انتشرت أخبار ظهورها بسرعة على الإنترنت رغم أنها لم تُصوَّر في الاجتماع، وأُثيرت تساؤلات كثيرة بشأن حقيقة ارتدائها للحجاب والسروال مع سترة قصيرة، بدلاً من النقاب أو العباءة السوداء الطويلة، مما أوحى، ربما عمدًا، بأن شرا ليس متطرفًا.
في غضون أسبوع، قام بأول زيارة خارجية له إلى السعودية، برفقة الدروبي، التي ارتدت عباءة سوداء طويلة وحجابًا دون غطاء وجه، وهو اختيار ذو دلالة.
كان هذا الزي معيارًا لأداء العمرة، حيث لا يُسمح للنساء بتغطية وجوههن، لكنه أيضًا كان يروق للعناصر الأكثر تشددًا في قاعدة دعم الشرع، وبعد يومين، التُقطت أول صورة رسمية للدروبي مع زوجة الرئيس التركي.
كان تقديم زوجة الشرع للجمهور بمثابة نموذج مصغر لكل ما تعلمه على مدى العقود عن التعديلات الدقيقة والتوازن المطلوب لكسب تحالف يضم فصائل متباينة إلى حد كبير، وبصفته زعيمًا لكل السوريين، فإن هذا التحالف يشمل من الجهاديين المتشددين الذين ساعدوه على الصعود إلى الليبراليين العلمانيين الذين لا يمكنه تحمل خسارتهم إذا أراد الحكم.
بالنسبة لكثيرين في الفئة الأخيرة، ارتكب الشرع بالفعل عدة أخطاء، فعندما أعلن نفسه رئيسًا في يناير، فعل ذلك مرتديًا الزي العسكري أمام عشرات من قادة الفصائل السورية الذين ساعدوا في الإطاحة بالأسد، ولم يكن بعضهم يعلم سبب استدعائهم إلى العاصمة حتى طُلب منهم المصادقة على صعوده، كما انه لم يخاطب الشعب السوري علنًا في تلك الليلة، كما انه بالكاد فعل ذلك منذ توليه السلطة، ولم يذكر كلمة “ديمقراطية” علنًا إلا مرة واحدة، ولم يُبدِ حتى الان اهتمامًا كبيرًا بتوسيع الحكومة لتشمل شخصيات خارج أعضاء هيئة تحرير الشام.
وفي الوقت نفسه، تتحرك حكومته بوتيرة بطيئة للغاية، وهو ما يعزوه من هم في دائرته إلى أسلوب قيادته المركزي، فقد حصر صنع القرار في مجموعة صغيرة من أقرب مساعديه من إدلب، بالإضافة إلى أفراد عائلته لأنه لا يمنح ثقته بسهولة، ومن بينهم شقيقاه، ماهر، وزير الصحة الحالي، وحازم، الذي يعمل كمستشار كبير غير رسمي، كما يشمل أنس خطاب، أحد الرجال الستة في القاعدة الذين عبروا إلى سوريا مع شرا في عام 2011، والذي يشغل الآن منصب رئيس الاستخبارات.
لم يكن هذا مفاجئًا لمن يعرفون سنوات الشرع في إدلب حيث يتذكرون المتشددين الذين يميل إلى وضعهم في مواقع السلطة، وأحيانًا وحشية عمليات التطهير القيادية التي نفذها، فقد زجّ بالعديد من أقرب مساعديه في السجن في عام 2023، على سبيل المثال، حيث تعرضوا للتعذيب، مما أدى إلى احتجاجات واسعة النطاق.. أحدهم - أبو ماريا القحطاني، حليف رئيسي جاء أيضًا من العراق مع الشرع في 2011 - والذي توفي في أبريل الماضي، بعد أسابيع من إطلاق سراحه عقب ما يقرب من عام في السجن.
يريد كثير من السوريين أن ينجح الشرع لأن البديل أسوأ من أن يُتصور، لكن منذ وصوله إلى دمشق، عقد مئات الاجتماعات مع مسؤولين أجانب، ودبلوماسيين، ومجموعات من المجتمع المدني، ورجال أعمال، وأعضاء بارزين في الشتات وغيرهم، وهو يستمع إلى نصائح المحللين والمسؤولين والدبلوماسيين الذين كان يلتقي بهم لسنوات في إدلب، وكذلك إلى المتشددين الذين لا يزالون يشكلون جزءًا من دائرته المقربة.
من بين العشرات الذين تحدثت معهم ممن حضروا تلك الاجتماعات، بمن فيهم البعض الذين عارضوا الشرع منذ فترة طويلة، كان هناك إجماع متفائل بشأنه حتى الآونة الأخيرة حيث وصف لي مرارا من قبلهم بأنه “ذكي للغاية”، “مراوغ”، “ملم بالتاريخ الإقليمي”، “واسع الاطلاع”، “مستمع جيد”، والأكثر تكرارًا، “براغماتي”، لكن في الأسابيع الأخيرة، بحاكم مستبد".