مؤسس الإمبراطورية الاقتصادية لتنظيم الإخوان استهدف تشويه عبدالناصر.. تجربة وشخصا.
قام بترسيخ رواية إخوانية تشيطن جمال عبدالناصر
*- شبوة برس - العرب
بوفاة مؤسس الإمبراطورية الاقتصادية لتنظيم الإخوان يوسف ندا (1931 ـ 22 سبتمبر 2024) تُطوى واحدة من أخطر صفحات الإخوان. لا أتناول الآن الجوانب المالية وشبكتها العنكبوتية حول العالم، وإنما قيام الرجل بتزوير التاريخ، وترسيخ رواية إخوانية تشيطن جمال عبدالناصر. وقد افتخر بذلك أمام شهود من تنظيم انتهج السرية، وانتقلت هذه السرية إلى عمل فردي استهدف به يوسف ندا تشويه عبدالناصر.. تجربة وشخصا، فأدبيات الإخوان تؤكد خروجه على الدين. وعلى هذا الاعتقاد نشأتُ صبيا، متأثرا بمجلة «الدعوة» الشهرية، لسان حال الجماعة. احتجت إلى سنين من المجاهدة، حتى تخلّص دمي من السموم الإخوانية، وأعدت النظر في عبدالناصر الذي وصفه الجواهري بأنه «كان العظيم المجد والأخطاء». على الأقل أيقنت أنه ليس كافرا، كما يزعمون.
وفقا للعقيدة الإخوانية، نحن الآن في مرحلة بينية، على جسر يبدأ بالجاهلية ولم يصل إلى الإسلام. والحرب، في هذا الاستضعاف «المكيّ»، خدعة يجوز فيها استخدام الأسلحة كلها. الوفاء لدين الإخوان مقدّمٌ على حديث نبوي صريح: «أيكون المؤمن كذابا؟ قال: لا». في ديسمبر 2012، تعرّض القيادي الإخواني صبحي صالح لاعتداء، ردا على أحداث قصر الاتحادية الرئاسي. استعد لاستقبال الموت بقوله «أنا فخور أنني من الإخوان. أشعر بشرف أنني من الإخوان.. الحمد لله. أسأل الله أن يتوفني على الإخوان». في 15 ثانية ذكر «الإخوان» أكثر من ذكر «الله». أما زينب الغزالي (1917 ـ 2005) ففي الصفحة الأولى من كتابها «أيام من حياتي» تتحدث عن «عبادة الطواغيب» في «مجتمعات الجاهلية»، في إعادة لمفهوم الجاهلية الذي صاغه سيد قطب، وقد ألف أخوه محمد قطب كتاب «جاهلية القرن العشرين”.
*-كتب ساذجة يتوالى طبعها، وتلهم الأجيال الجديدة من الإخوان، تزيدهم يقينا، ولا قدرة لديهم على قراءة النص وتحليله، يعنيهم ثبوت العنعنة في الرواية، ويفوتهم علم الدراية
الكتاب الميلودرامي المنسوب إلى زينب الغزالي يمكن إدراجه ضمن السرد الغرائبي. التمهيد للغرائب يبدأ بتهيئة القارئ للقبول بأن عبدالناصر هو «الطاغوت»، وأن حل جماعة الإخوان قرار «جاهلي». في تلك الجاهلية، أنقذهم كتاب سيد قطب «معالم في الطريق» عام 1962. تقول زينب الغزالي إن الإخوان رأوا أن تستمر مدة التربية والإعداد «ثلاثة عشر عاما، عمر الدعوة في مكة.”
ليس في تاريخ الإخوان المسلمين أديب أو مبدع في أيّ مجال. التربية على السمع والطاعة تقضي على الخيال. لديهم مَن يكتبون كتبا إنشائية، خطبا منبرية، جافّة زاعقة. لا يفرّقون بين كتابة التاريخ والسيرة. كتاب زينب الغزالي يفترض أنه سيرة ذاتية، لكنها تقول «وقد تأكدت لدينا الأخبار بأن المخابرات الأميركية والمخابرات الروسية ووليتهم الصهيونية العالمية قد قدموا تقارير مشفوعة بتعليمات لعبدالناصر بأخذ الأمر منتهى الجد للقضاء على هذه الحركة الإسلامية.”
لا مصدر لشائعات مختلقة تسمّيها زينب الغزالي أخبارا. وفي أغسطس 1965 اعتقلت. وفي المعتقل تروي عن معتقلين رجال من الإخوان، كأنها في جولة تفقدية «هذا مصلوب على خشبة، وهذا منكفئ على وجهه للحائط»، يستغيثون بها وهي ترد عليهم «أبنائي، إنها بيعة، صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة». أدخلوها حجرة رقم 24 وكانت «مليئة بالكلاب! لا أدري كم!!.. وتعلقت الكلاب بكل جسمي، رأسي ويدي، صدري وظهري، كل موضع في جسمي… مرّت ساعات ثم فتح الباب وأخرجت من الحجرة… يا لدهشتي، الثياب كأن لم يكن بها شيء، كأن نابا واحدا لم ينشب في جسدي». ويعجب السجان، الذي تسميه الشيطان، ويسألها: كيف لم تمزقك الكلاب؟
في الطريق إلى زنزانتها رقم 3، في السجن الحربي، مرّت بالزنزانة رقم 2، زنزانة الضابط المعتقل محمد رشاد مهنا. ولا يزال المشهد متصلا، بعد مرور ساعات التعذيب في الغرفة 24، ثم وصولها إلى الزنزانة 3، حيث تيمّمت «وصلّيتُ المغرب والعشاء.” هنا تحتاج بقية المشهد إلى تزفيتان تودوروف ورفاقه المتخصصين في تحليل النصوص العجائبية، ففي هذا الليل وعلى الرغم من التعذيب ونهش الكلاب المدرّبة، «كان بأعلى الزنزانة نافذة تطل على فناء السجن، جاؤوا بصليب من الخشب على ارتفاع النافذة ثم جاءوا بشباب من المؤمنين يصلبونهم الواحد تلو الآخر على هذا الصليب.” ينقطع هذا المشهد بالنوم، ثم سماع أذان الفجر، فتيمّمت وصلّت، واستمر ذلك ستة أيام، «بغير ماء، أو طعام، أو قضاء ضرورة.”
*- يوسف ندا عرف كيف يستغل حماسة محمد الغزالي. دسّ له تقريرا وادّعى أنه بتوقيع عبدالناصر. هل أراد ندا الانتقام للإخوان من الغزالي وعبدالناصر معا؟
ثم أطلعوها على خطاب جاء فيه «بأمر جمال عبدالناصر رئيس الجمهورية تعذب زينب الغزالي الجبيلي فوق تعذيب الرجال!.» لا أعرف بالضبط هل علامة التعجب ضمن نص الخطاب، أمْ أن مؤلف سيرة زينب الغزالي أضافها؟ «والتوقيع جمال عبدالناصر رئيس الجمهورية.» الصيغة ساذجة ومتهافتة، فإذا كان عبدالناصر وقّع الخطاب، ستكون الصيغة «تعذب زينب الغزالي…،» خالية بالطبع من علامة التعجب. وأظن أمرا مثل هذا، لو حدث، فلن يكون إلا شفاهة. وأمر شمس بدران بإطلاق كلبين «كالوحشين.. وظل الكلبان ينهشان جسمي كله بأنيابهما.» وفي الأيام التالية توالى نهش الكلاب، كلبان اثنان دائما، ثم أدخلوها «زنزانة ضيقة مظلمة كالقبر الموحش..!! وأدخلوا معي كلبين، وأغلقوا الزنزانة.» وفي يوم آخر أدخلوا معها كلبا وتركوها «أكثر من ساعتين مع الكلب.» ويجد قارئ هذه السيرة تكرارا تحضر فيه الكلاب دائما.
أكتفي بهذا القدر، وأترك للقارئ بقية الكتاب، وأؤجل الكلام عن «المؤلف» إلى ما بعد الكلام عن فبركة وقع ضحيتها محمد الغزالي (1917 ـ 1996) في كتاب «قذائف الحق» المنشور عام 1973، في بدايات موجة رعاها أنور السادات للانتقام من عبدالناصر. هنا أعتمد على طبعتين نشرتهما دار القلم في دمشق عامي 1991 و1997. في هذا الكتاب فصل عنوانه «تقرير يفضح النيات المبيّتة للإسلام». لكن التقرير المزعوم، ويقع في سبع صفحات، لا يذكر الإسلام، إنما يستهدف محاربة أفكار الإخوان. لا يجد الغزالي فرقا بين الفكر الإخواني والإسلام. في صحيفة «الشعب»، ظل الغزالي حتى وفاته يكتب مقالا أسبوعيا عنوانه «هذا ديننا». الأدق أن يكون العنوان: «هذا ديني» أو «هذا اجتهادي”.
التقرير المزعوم أن عبدالناصر وافق عليه يدّعي أن عشرة اجتماعات جرت في مبنى المخابرات العامة، بحضور رئيس مجلس الوزراء ورؤساء الأجهزة الاستخبارية والجنائية، بهدف «تغيير مناهج تدريس التاريخ الإسلامي والدين.» ومنع أقرباء الإخوان «حتى الدرجة الثالثة» من الالتحاق بالجيش أو الشرطة. و«عزل المتدينين» عن أي تنظيم حكومي أو عمالي. وعدم السماح «لأي متدين بالسفر للخارج للدراسة أو العمل.» ومصادرة أموال الإخوان وممتلكاتهم واعتقالهم مع استعمال «أشد أنواع الإهانة والعنف والتعذيب.» يقترن بذلك التضييق على زوجات الإخوان، حتى يتحررن ويتمردن لغياب عائلهن، وحاجتهن المادية قد تؤدي إلى انزلاقهن، وتوقيف الأبناء عن الدراسة. وفي المرحلة التالية «إعدام كل من يُنظر إليهم بينهم كداعية.”
لا أحتاج إلى ذكر تعليق الغزالي على هذا «التقرير الإجرامي» الوهمي. لا سابقة لزينب الغزالي في الكتابة، ولم ترفض أن يؤلف الداهية يوسف ندا ميلودراما في كتاب يحمل اسمها. أما محمد الغزالي، الذي تخلو حياته من تراجيديا وميلودراما السجون، فيخطب ويكتب كلاما منبريا حماسيا. ولعله توفي من دون أن يعرف حقيقة هذا «التقرير» المدسوس.
هذه الكتب الساذجة يتوالى طبعها، وتلهم الأجيال الجديدة من الإخوان، تزيدهم يقينا، ولا قدرة لديهم على قراءة النص وتحليله، يعنيهم ثبوت العنعنة في الرواية، ويفوتهم علم الدراية. أما غير الإخوان، من النقاد القادرين على نسف النصوص غير المتماسكة، فيعرضون عن قراءة هذه المتون، استعلاء أو انشغالا، غافلين عن السحر الكامن في الأكاذيب، ووجود جماهير مستعدة للتصديق، وتوارث المظلومية.
فلولا المصادفة لظلت الكذبة سارية. المهندس أبوالعلا ماضي، الذي ترك الإخوان وأسس حزب «الوسط» كمشروع إسلامي وسطي، كتب مقالا عن جنازة عبدالناصر، وذكر مقولة الإمام الشافعي «جنازة المرء شاهدة له أو عليه».
غضب يوسف ندا مسؤول العلاقات الدولية للإخوان، وعاتب أبا العلا ماضي الذي سأل عن حقيقة التعذيب في معتقلات عبدالناصر، واستشهد بكتاب زينب الغزالي. ضحك ندا وقال:
«أنا مؤلف هذا الكتاب». استنكر أبوالعلا أن يؤلف ندا، كتابا ملفّقا عن أحداث 1965 وهو مقيم آنذاك في سويسرا. وسأله: أليس الكذب حراما؟ وهذا الكتاب كذب وتضليل. أجاب ندا: «اللي تغلب به اِلْعب به.”
زينب الغزالي لا تؤلف الكتب، ومحمد الغزالي يؤلف. في دين الإخوان ما لا يتحقق بالتأليف يتم بالتزييف. عرف يوسف ندا كيف يستغل حماسة محمد الغزالي. دسّ له تقريرا وادّعى أنه بتوقيع عبدالناصر. هل أراد ندا الانتقام للإخوان من الغزالي وعبدالناصر معا؟
سمعت بالخدعة، واتصلت بالأستاذ هيثم أبوزيد، وقرأت مقالا كتبه عام 2013، بعنوان «قصة كذبة خالدة». استقال أبوزيد من الإخوان عام 2005، وأصبح المدير التنفيذي لحزب الوسط. وفي عام 2008 قال له أبوالعلا ماضي رئيس الحزب إنه يريد إطلاعه على «قنبلة»، إذ زاره المهندس الإخواني مراد جميل الزيات الذي اعتقل في الستينات، وفي السبعينات قابل يوسف ندا في أوروبا، وحكى الزيات عن معاناة الإخوان، واستشهد بالوثيقة الواردة في كتاب محمد الغزالي. قهقه ندا، وقال «أنا من وضع هذه الوثيقة، لتشويه نظام الحكم الناصري.» فقال الزيات «لكن هذه فبركة.» رد ندا بثقة «الحرب خدعة.”
كتب أبوزيد: أصابني الذهول، وقد كنت أعلم أن الإخوان يبالغون، وأحيانا يكذبون، لكن لم يخطر ببالي ـ حينها ـ أن يصل الأمر للاختلاق الكامل، وتأليف الأوهام والافتراءات، وقد رأيت حينها أن رواية الزيات لا تكفي للاعتماد عليها، فربما كان هناك أيّ ثغرة أو خطأ في النقل، بل ربما كان يوسف ندا يمزح، حتى ولو كان هذا الاحتمال ضئيلا، لذا قلت لأبوالعلا إنه لا داعي لاستخدام هذه القصة، ما لم يتوفر لها قدر أكبر من الثبوت، لكن ماضي رأى أن من الضروري فضح الإخوان وإظهار أكاذيبهم.
*- ليس في تاريخ الإخوان المسلمين أديب أو مبدع في أيّ مجال. التربية على السمع والطاعة تقضي على الخيال لديهم مَن يكتبون كتبا إنشائية، خطبا منبرية، جافّة زاعقة
أبوالعلا وأبوزيد قابلا محمد سليم العوا، بحضور ثلاثة من قادة حزب الوسط أحدهم حسام خلف زوج علا يوسف القرضاوي. أبوالعلا خاطَب العوا بما سمعه من مراد الزيات، فقاطعه العوا «نعم، هذه رواية حقيقية، وأنا أعلم بها من نحو أربعين سنة!!» ثم فاجأهم سليم العوا بأن «الوثيقة الأصلية التي كتبها يوسف ندا، موجودة عنده في مكتبته.”
العوا، الذي ترشح لرئاسة مصر عام 2012، صمت أربعين سنة، وكتم الشهادة. ولم يجرؤ على إبراء ذمته، وفضح الكذب. طالبه أبوالعلا ماضي بإعلان الحقيقة، «فهز الرجل أكتافه قائلا: وأنا مالي. عاوز تعلن أعلن أنت.» وختم أبوزيد مقاله بهذه الجملة «إن كذبة يوسف ندا، ستظل شاهدا خالدا على وضاعة تنظيم، وخسة جماعة، داسها الشعب بأقدامه.”
مصادفتان تكشفان كذبتين ليوسف ندا. كذبة بحجم كتاب لزينب الغزالي، وكذبة بحجم فصل في كتاب محمد الغزالي. كلا الكتابين موضع يقين إخواني. هل لفّق يوسف ندا أكاذيب أخرى مدسوسة في مؤلفات آخرين؟ لعل غيره دسّ افتراءات صارت حقائق وألغاما إخوانية. مع تنظيم يَفْجُرُ في الخصومة، ويستحلّ الافتراء ويتسلح بالتقية، تصير الحياة حربا مفتوحة مع أعداء يجب خداعهم. تبدأ الحرب بمصادرة الحقيقة، وتنتهي بمصادرة الأرواح.
إلى أن تكشف المصادفات تلفيقات ابتدعها الجهاز الخفي للإخوان، أختم بكتاب وطرفة.
الكتاب هو «حسن البنا الرجل القرآني» للكاتب الأميركي روبير جاكسون، وترجمة أنور الجندي. قبل نحو أربعين سنة، في عامي الدراسي الأول بجامعة القاهرة، كنت متأثرا بأفكار الإخوان، وقابلتُ أنور الجندي في بيته بحيّ الطالبية في الهرم. أهداني كتبا أحدها يحمل اسم روبير جاكسون. سوف أعرف أنه اسم وهمي لكاتب لا وجود له. في هذا الكتاب تختفي المسافة بين الترجمة والتأليف. أرجّح أن الكتاب وروبير جاكسون من تأليف أنور الجندي.
أما الطرفة فهي تصريح تلفزيوني فكاهي للقيادي الإخواني صبحي صالح، عام 2012، منتشيا بصعود الجماعة إلى المشهد السياسي. قال إنه تابع البيان الأول لعبور الجيش المصري قناة السويس، أثناء غداء مع صديق، في الساعة الثانية وخمس دقائق، يوم السادس من أكتوبر 1973.
تصريح ينطوي على كذبتين. الأولى أن البيان الأول، المقترن ببدء الحرب وإطلاق نيران المدفعية، الساعة الثانية وخمس دقائق، لم تتم إذاعته. والبيان الشهير للعبور، المعتمد في الأعمال الدرامية، هو البيان السابع، وقد أذيع في السابعة والنصف مساء، بعد نجاح وصول القوات المصرية إلى سيناء. أما الكذبة الثانية فترتبط بتوقيت الأكل وطبيعة الوجبة الغذائية. نسي صبحي صالح أن يوم السبت 6 أكتوبر 1973 وافق 10 رمضان. في شهر رمضان لا يتغدّى الصائمون، بل يفطرون بعد أذان المغرب. لكن الإخوان، المحرومون من نعمة الخيال، تتسع أخيلتهم للكذب، فيجيزون ما لا يجوز.