قرأت مقالا في جريدة الشرق الأوسط بعنوان:"فر من الموت وفي الموت وقع" للصحفي المبدع والكاتب المتميز في أسلوبه صاحب القلم الرشيق مشعل السديري، عندما عاد بنا الى العام 1954م ووصف في مقال مميز زيارة الملكة اليزابيث الثانية الى عدن الذي قررت أن تقضي فيه عدة أيام وهي في شهر العسل قال فيه: عندما قررت الملكة أن تترك جميع بلاد العالم وتتوجه على ظهر يختها الملكي مع زوجها إلى (عدن) عندما كانت في ذلك الوقت هي أجمل وأرقى وأنظف مدينة في الجزيرة العربية.
واستقبلت من المسؤولين أروع استقبال ثم استقلت السيارة وتوجهت إلى فندق (كريسنت) وسط حشود شعبية كبيرة، وفي المساء افتتحت مستشفى (الملكة إليزابيث) الكبير الذي يحتوي على سكن الأطباء والممرضين العرب والأجانب، وهو مجهز بأول تكييف مركزي بالمنطقة.
وعدن في ذلك الوقت كان فيها أهم مصفاة للنفط، كما أن الصناعة والتجارة والسياحة والبنوك والمصارف والمرافق الخدمية مزدهرة فيها، إلى جانب المدارس والملاعب والحدائق، إضافة إلى القلاع والحصون والقصور."
في الوقت الذي كانت فيه باقي المستعمرات البريطانية في أفريقيا وآسيا متخلفة عن عدن ومنها "سنغافورة" التي كانت تغرق في الظلام الدامس وتنتشر فيها الحشرات والبعوض والأمراض والجرائم والسرقات في حين كانت عدن من أهم موانئ العالم ويأتي في المرتبة الثالثة بعد مينائي نيويورك وليفربول وترسو فيه أضخم السفن العالمية تحمل السياح كما تصل اليه معظم تجارة وبضائع دول شرق أفريقيا والخليج والجزيرة العربية ويعتبر ميناء عدن هو الميناء الحر ورسومه كانت رمزية في تلك الأيام !!
وللأمانة وللتاريخ يجب أن لا ننكر الفارق في المستوى العلمي والثقافي والحضاري في ذلك الوقت بين سكان عدن والمحميات الجنوبية الأخرى التي كان يزيد عددها عن 20 إمارة وسلطنة وكانت كل منها لها سلطانها وادارتها الخاصة ..صحيح أن اتحاد الجنوب العربي كان يجمعها ولكنه لم ينجح في دمجها أو حفظها على مستوى الجنوب وبقيت أهم السلطنات خارج الاتحاد وهي : القعيطي والكثيري والمهرة مما جعلها جميعا طعما سهلا لليمن الذي قامت فيه جمهورية عام 1962م شكلا ليس إلا ، وقد حاولت بريطانيا تسليم الحكم بصورة آمنة ولكن لا السلاطين سمعوها ولا الشعب الذي استمع لصوت العقل و غيب الجميع مصلحة الجنوب عن المشهد !!
كما لعبت ثورة اليمن وأجهزة المخابرات المصرية دورا هداما لعرقلة استلام الاستقلال بسلم وسلام في حين كان السلاطين غير مؤهلين لاستلام الحكم ضمن حكومة الجنوب العربي وحدها لخلافاتهم ونزاعاتهم المستمرة فيما بينهم كما كانت الأحزاب الجنوبية كل منها له أجندته الخاصة مما جعل الجنوب صيدا سهلا للقوى الخارجية آنذاك في حين قررت بريطانيا الانسحاب من عدن نهائيا في عام 1967م وسلمت الحكم للجبهة القومية التي فرخت الحزب الاشتراكي اليمني الدموي الذي عصب الراية الشيوعية الحمراء برأس كل زنديق مارق فيه وتبناها أكثر من أهلها في أصقاع الاتحاد السوفيتي وكوبا آ نذاك فكانت النتيجة دمارا وخرابا ضرب الدولة الجنوبية الوليدة وفي نهاية المطاف سلمها البيض لليمن باردة مبردة وكان ما كان ودخلنا في نفق الوحدة المظلم ولم نخرج منه حتى اليوم !!
في حين نهب الشماليون الغزاة عدن عام 1994م واستباحوها وكفروا أهلها بفتاوى من كبار علماء الزيدية العنصرية بل وسرقوا كل محتويات فندق "كريسنت" مع سيارة الملكة البريطانية وكل ذكرياتها في عدن ولا زالت تلك المقتنيات في صنعاء حتى اليوم بأيدي الغزاة.
ويجب ان نعترف ونقول الصدق أننا جميعا طبلنا وصفقنا بل وشارك البعض منا في كل تلك التيارات الحزبية الجنونية المجنونة التي قلبت الجنوب رأسا على عقب حتى وصلنا الى الحال الذي نحن عليها اليوم ، ولا سامح الله الرفاق فيما فعلوا فينا فجرائمهم كبيرة لا تغتفر عندما قتلوا خيرة رجال الجنوب ودمروا الجنوب عامة وعدن خاصة وصدق فينا قول الشاعر الكبير الأستاذ المرحوم عبدالله البردوني:
تبكي وتندب قوماً كلما خرجوا/ من معبر مظلم في مثله دخلوا
كأنهم وسط نار الحرب موقدها/ في الأرض ما خلقوا إلا ليقتتلوا
د. علوي عمر بن فريد