أصدر ابن خلدون أحكاما قاسية و غريبة في حق العرب ، و في بعضها ذم صريح لهم ،و إنقاص من مكانتهم ، فهل قصد بذلك أهل البادية ، أم أهل الحضر ، أم قصدهم كلهم بدوا و حضرا ؟ و ما هي الأحكام التي أصدرها في حقهم ؟ .
فبالنسبة للتساؤل الأول ، فقد ذهب الباحث فاروق النبهان إلى القول بأن ابن خلدون استخدم مصطلح العرب ، وقصد به الأعراب ،و هم أهل البادية الذين يسكنون الصحراء ، ثم قال إن كلام ابن خلدون لا يستقيم إلا إذا قلنا إنه يقصد الأعراب ، فهل قوله هذا صحيح ؟
لقد تبين لي من تتبع أقوال ابن خلدون في أحكامه التي أطلقها على العرب ، أنه أطلق اسم العرب على العرب كلهم بدوا و حضرا معا ، و لكنه قد يطلقه على البدوا تحديدا، و قد يطلقه على الحضر فقط ، و قد يطلقه عليهم كلهم ، دون أن يفرق بينهم من حيث اللفظ ، و هو بلا شك يُدرك الفرق بين عرب البادية و عرب المدينة ، لكنه مع ذلك أطلق اسم العرب على الجميع ، حتى و إن قصد أحدهما تحديدا ، بحكم أن مصطلح العرب يشملهم جميعا ، فعرب البادية و عرب المدينة في النهاية كلهم عرب ، و قد نجد القبيلة العربية الواحدة ، تجمع بين سكن البادية و الحضر ، فبعض أفرادها يسكنون الحضر ، و آخرون يسكنون البادية ،و جميعهم عرب .
و بناء على ذلك فنحن لا نوافق ابن خلدون في تعميمه لذلك المصطلح ،و التسوية المطلقة بين الأعراب و أهل الحضر ، نعم كلهم عرب ، لكن لعرب البادية خصائص و وضعيات و أحوال تختلف عن عرب المدينة ، و قد فرّق الشرع بينهم ، قال تعالى (( الأعراب أشد كفرا و نفاقا ))-سورة التوبة /97- ، و (( و من الأعراب من يُؤمن بالله و اليوم الآخر،و يتخذ ما يُنفق قربات عند الله و صلوات الرسول، ألا إنها قربة ))-سورة التوبة /99- .
و قد نهى رسول الله –عليه الصلاة و السلام- أصحابه عن التعرّب ، أي الرجوع إلى حياة البادية .
و الشواهد الآتية تثبت ما قررته عن ابن خلدون ، أولها إنه عندما تكلم عن زوال دول العرب ، قال إنهم في الأصل أمة متوحشة همهم نهب ما عند الناس ، و حتى عندما كونوا دولا منذ زمن الخلافة الراشدة ، فقد زالت بسرعة ،و تقوّض عمرانها و أفقر ساكنه . فواضح من كلامه أنه يقصد العرب جميعا بدوا و حضرا ، فأهل التوحش و النهب ما عند الناس ، هم الأعراب ، و الذين كونوا الدولة الراشدة و الأموية و العباسية ، هم عرب المدينة .
و الشاهد الثاني هو إن ابن خلدون قال إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصيغة دينية ، أو ولاية ، أو أثر عظيم من الدين على الجملة ، بسبب خُلق التوحش المتأصل فيهم .
و كلامه هذا صريح كل الصراحة في أنه يقصد أساسا العرب من أهل الحضر ، لأن الملك الذي حصل للعرب كان في أهل المدينة ،و فيهم ظهر الإسلام أساسا و كونوا دولته .
و الشاهد الثالث هو إن ابن خلدون قال إن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك ، لأنهم أكثر الناس بداوة ، و من طبعهم نهب ما عند غيرهم ، و حتى إنهم عندما ملكوا كان ذلك بسبب الدين ، فلما تركوه نسوا السياسة ،و عادوا إلى بداوتهم . و هذا أيضا نص صريح في أن ابن خلدون يقصد بمصطلح العرب ، البدو و الحضر معا ، فكلهم عرب و هم الذين قصدهم ، فهم أهل البادية الذين ينهبون ما عند غيرهم ، و هم الذين كونوا دولا باسم الإسلام ، و هم الذين عادوا إلى البداوة عندما تركوا الدين ، و عليه فإن ما ذهب إليه الباحث فاروق النبهان غير صحيح ، و لا يستقيم كلام ابن خلدون عن العرب إلا مع الذي ذهبنا إليه.
* عن عدة دوريات ومواقع عربية