ثمة تغيير لا يمكن تجاهله يحدث في الشرق الأوسط، فالمعاهدة الإماراتية- الإسرائيلية لم تكسر جمود ثلاثة عقود من عملية السلام، بل تجاوزت ذلك بكثير إلى خلق قاعدة مختلفة للسلام مع إسرائيل، ترتكز على العقلانية المباشرة، وتقديم المصالح الوطنية على غيرها، وهو ما يفسر الحراك الدبلوماسي الواسع للولايات المتحدة، التي تحاول استثمار الزخم من معاهدة السلام الإماراتية- الإسرائيلية.
الأميركيون يدركون أن قاعدة المصالح مقابل السلام، هي أكثر عقلانية وأكثر ما يمكن أن يحقق للسودان مبتغاه من رفع اسمه من قائمة الدول الداعمة للإرهاب، كما أنه سيخرج الخرطوم من كماشة العقوبات الاقتصادية، التي كبلت يد السودان نتيجة تحالف نظام البشير مع تنظيم «الإخوان»، والذي حكم البلاد على مدى ثلاثة عقود.
رئيس المجلس العسكري عبدالفتاح البرهان، كان قد التقى برئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، في تأكيد الرغبة السودانية للتعامل مع عملية السلام بلغة المصالح، وتبقى المهمة الأميركية في تأطير اتفاق يحقق للسودان مصلحته، ويخلصه من أزماته الاقتصادية في مقابل علاقات سياسية مع إسرائيل، تدعم عملية السلام العربية الإسرائيلية.
أظهر «المجلس الانتقالي الجنوبي» ترحيباً بمعاهدة السلام الإماراتية- الإسرائيلية، بل إن تصريحات نائب رئيس المجلس الانتقالي هاني بن بريك، لم تمانع بإبرام اتفاق سلام مع إسرائيل، بعد تحقيق «المجلس الانتقالي» أهدافه السياسية، التي تحاول القيادة الجنوبية تحقيقها، من خلال الانخراط في عملية سلام الشرق الأوسط كقوى سياسية صاعدة ترفض الإيديولوجية، وتتبنى التفكير السياسي العقلاني، إضافة للانفتاح على كافة القوى الفكرية والسياسية في الجنوب ومحيطه السياسي.
لغة المصالح يمكنها أن تتجاوز حواجز الأوهام، التي صنعتها القوى الإسلاموية واليسارية لتستثمر لأطول مدة في القضية الفلسطينية، ولعل من أكثر الشعوب التي لا يمكن المزايدة على مواقفها من قضية فلسطين شعب اليمن الجنوبي، الذي استضاف قيادات الجبهة الشعبية الفلسطينية، ووفر لها كافة ما يمكن من المكاتب ومعسكرات التدريب، بل بلغ حال قيادة اليمن الجنوبي السابق لمحاولة شراء أسلحة من الاتحاد السوفييتي، وتسليمها لجورج حبش ونايف حواتمه.
اللعبة الأوسطية غيرت دولة الإمارات قواعدها، وأدخلت عنصر العقلانية لتتحول عملية السلام لواقع يحقق الأمن والاستقرار، ويفتح المجال لتنمية اقتصادية، تقوم على شراكات في مجالات استثمارية جديدة كالذكاء الاصطناعي وعلوم الفضاء والتكنولوجيا، تتسابق فيها الدول بدلاً من استنزاف الموارد والطاقات في الصراعات والحروب، التي زادت من معدلات الفقر والبطالة والجريمة والأمية في شعوب الشرق الأوسط.
لكل دولة ما تراه من مصالح وفقاً لسيادتها ودستورها، ولا يمكن الارتهان للشعارات البالية التي يرفعها، ما يمكن تسميته بمحور الشر (إيران وتركيا ودولة خليجية صغيرة) لتحطيم الدول الوطنية، وإخضاع المنطقة للبقاء في دوامة اللاحرب واللاسلم، لتفتيت ما تبقى من شرق أوسط، يقتات على الصراعات التاريخية، وتضيع منه فرص السلام والاستقرار.
أظهرت الولايات المتحدة ديناميكية في دبلوماسيتها، سواء من خلال مشاركتها ضمن «طائرة السلام»، أو من زيارة وزير الخارجية الأميركي للسودان، وجولة «جاريد كوشنر» كبير مستشاري البيت الأبيض الأوسطية، واطلاع مملكة البحرين والسعودية على ما تم تحقيقه في عملية السلام، فهذه الديناميكية الدبلوماسية في هذا التوقيت مهمة، فالمنطقة تشهد إبرام اتفاقيات ترمي للتهدئة وتخفيض الصراعات، كما هو الحال في السودان واليمن.
الخطوة الدبلوماسية الإماراتية أحدثت تغييراً عند شعوب الشرق الأوسط، ووضعت الدول العربية أمام استحقاق سياسي يوفر الدعم للفلسطينيين، ويضمن «حل الدولتين» كفرصة قائمة يمكن العودة للمفاوضات عليها، وترك المجال للدول العربية لتحصل كل منها على حدة، على صفقتها المناسبة بسلام على قواعد مادية ملموسة.
*عن الاتحاد