في عام 532 م أمر الإمبراطور البيزنطي، جستنيان الأول، ببناء الكنيسة في القسطنطينية (إسطنبول حالياً) على أنقاض أخرى تعرضت للبناء والهدم أكثر من مرة. واستغرق بناء كاتدرائية آيا صوفيا - والتي تعني "الحكمة الإلهية" باللغة اليونانية- خمس سنوات!!.
وأراد جستنيان الأول من خلالها أن يُثبت تفوقه على أسلافه الرومان بتشييد صرح معماري غير مسبوق. وبعد اكتمال البناء، ذكر المؤرخون أنه من شدة إعجاب الإمبراطور بالكاتدرائية قال لحظة دخوله إليها: "يا سليمان لقد تفوقت عليك" في إشارة إلى النبي سليمان الذي كان يسخر الجن لإقامة الأبنية العظيمة، بحسب المرويات الدينية ولكن الرواية الحقيقية تقول :
إن السلطان محمد الثاني المعروف ب «محمد الفاتح « عرض بعد فتح القسطنطينية (إسلام بول ) التي جرى تحريف اسمها إلى "اسطنبول" لاحقا !!
عرض على القساوسة شراء مبنى "كنيسة أيا صوفيا " من ماله الخاص، وليس من مال الدولة أو من بيت مال المسلمين، وتمت صفقة شخصية ليس لها علاقة بوظيفته في الدولة، وتم توثيق الصفقة من خلال عقد شراء وتنازل، وتم إثبات تسديد المبلغ بسندات دفع. ثم قام بإنشاء وقف « جمعية « وتنازل للجمعية عن عقاره، وتم التوثيق على اسم الوقف !!. ويقول الكاتب والباحث الأردني رشاد أبو داود : تمت مراجعة يدوية لـ 27 ألف مستند، وجد بالصدفة بينها سند ملكية أصلي ( طابو ) يظهر بوضوح ملكية خاصة للعقار.واستناداً لذلك تقدم أصحاب العقار بطلب لاستعماله بحُرية مطلقة كونه ملكهم الخاص، وكان طلبهم إعادة المبنى لمسجد كما استعملوه منذ يوم شرائه عام 1453لمدة 481 سنة إلى أن حوله أتاتورك إلى متحف، لا مسجد ولا كنيسة!! إلى هنا يبدو الأمر بيع وشراء مبنى ثم الاستيلاء عليه ثم إعادته إلى مالكيه المستندين إلى وثائق رسمية. لكن من السذاجة أن ننظر إلى الأمر من هذه الناحية. خاصة واردوغان لا يخفي رغبته وسعيه لإعادة مجد الدولة العثمانية التي كانت ممتدة من منتصف أوروبا إلى أقصى غرب آسيا وشمال أفريقيا!!!. .
بل يراهن اردوغان على العام 2023 وهو موعد انتهاء معاهدة لوزان التي استسلمت فيها الدولة العثمانية اثر هزيمتها في الحرب العالمية الأولى والمبرمة بين تركيا ودول الحلفاء، الأمر الذي فتح الباب أمام تأويلات سلبية غير صحيحة حول الاتفاقية. وابرز بنود المعاهدة «مصادرة جميع أموال الخلافة والسلطان و إعلان علمانية الدولة ّ!! و السؤال هو: أين سيكون موقعنا نحن العرب لو تحققت أحلام أردوغان؟؟!! وهل ستذوب هويتنا القومية في الهوية الإسلامية التركية ونعود «رعايا» ؟؟!! وأين هو مشروعنا العربي لمواجهة المشاريع المتعددة في منطقتنا ؟؟
وما قام ويقوم به أردوغان ما هو إلا تكتيك معروف في ”قياس درجة الاحتقان الاجتماعي“، إلا أن تحويل الكنيسة القديمة، آيا صوفيا، إلى مسجد، وما رافقه من تعميم وتلميع لصورة وصوت أردوغان وهو يقرأ القرآن ما هي سوى رزمة استعراضات رأت فيها الأوساط السياسية محاولة لكسب الطبقات الشعبية المتدينة، بعد أن ناءت تحت ضغط التداعي الاقتصادي والمعيشي !!
وقد أوضح المعارض السياسي، محمد عبيد الله، وقال : أن أردوغان هدف من وراء القرار ضرب عدة عصافير بحجر واحد فهو يسعى إلى التخلص من إرث الرمز التركي العلماني كمال أتاتورك، وضرب التيار العلماني المناوئ له سياسيا، وترويج نفسه كخليفة ديني يحافظ على مقدسات الإسلام والمسلمين، وتوجيه رسالة انتقام للغرب المعادي لسياسته في سوريا والعراق وليبيا والبحر المتوسط!!."
كما أضاف أن "الرئيس التركي يسعى أيضا إلى إنقاذ شعبيته في الداخل التركي بعد أن تصدعت وانهارت بسبب تدهور الاقتصاد وغياب الأمن وتراجع الحريات، وانشقاقات التيار المتحالف معه ومع حزبه"
الإستراتيجية الإستيلائية التركية في منطقة الإقليم تتلخص بالتالي:
أولاً: إن الرئيس التركي يحاول استعادة أمجاده من بنغازي إلى اليمن من البوابة الدينية، من خلال استنهاض الشعوب عبر إثارة الشعور "الإخواني"، بعد فشل ما يسمى "الربيع العربي" من إبقاء الإخوان المسلمين في الحكم!!.
ثانياً: يسعى أردوغان إلى البحث عن سبيل لتأييد الرأي العام "الإخواني" في العالم العربي بما فيه مصر، خصوصاً إذا ما حاولت القاهرة التدخل في ليبيا عسكرياً!!
ثالثاً: لا شك بأن الأهداف الجيوسياسية لتركيا كما لأغلبية الدول، تتمحور حول المخزون الهائل من الغاز الطبيعي في ليبيا، فضلاً عن السباق الحاصل بين تلك الدول بما فيها روسيا، الولايات المتحدة الأميركية، مصر وتركيا للحصول على تلك الثروة النفطية والاستفادة منها!!.
انطلاقاً من ذلك، نجد في المعطيات الإقليمية، بأن تلك الحالة "الإخوانية" المستجدة سوف تكون الرافعة الأساسية لمصالح تركيا الجيو - سياسية (النفطية)، والجيو-الثقافية (الإخوان المسلمون)، وهو ما تخشاه مصر من حيث التعاظم "الإخواني" على حدودها، ويدعوها للقلق من التمدد التركي الإخواني في المنطقة!!.
أما في المعطيات الدولية، تُقرأ خطوة أردوغان بتحويل "آيا صوفيا" إلى مسجد، من ضمن السياق الإستفزازي أيضاً لروسيا، التي تضع أيضاً ثقل أنشطتها في ليبيا الغنية بالنفط. فيما ترفض موسكو بالتالي أي تدخل تركي في ليبيا. في الوقت ذاته، شَكّل تحويل "أيا صوفيا" إلى مسجد إحراجاً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ذلك إنّ معاداته لأردوغان في هذا التوقيت الحساس، لن يُفيد موسكو بشيء، خصوصاً بعد عقد القمة بين الثلاثي موسكو- طهران - أنقرة. ..كما أن سيد الكرملين يحاول الإمتناع عن أي تصريح بشكل علني أو شجب القرار التركي بقضية "آيا صوفيا"، تفادياً لأي صراع مع الطرف التركي، لما لروسيا من حاجة للمنافذ البحرية على ضفتي البوسفور والدردنيل التي تُشرف عليها تركيا!!
والعبرة بالنهاية لمواقف أنقرة الارتجالية الغير مدروسة حتى مع أقرب حلفائها!!
د.علوي عمر بن فريد