الثورة على الظلم ليست عودة إلى الماضي

2020-02-15 11:36

 

تكاثرت في الآونة الأخيرة ظاهرة الكتابات السطحية القائمة على استغفال القراء والمتابعين والرهان على (غبائهم)، من تلك التي يقول بعض أصحابها إنه و"قبل الثورة كان عندنا نظام يجيب لنا رواتب وكهرباء ومياه وسيارات نظافة، وجاءت الثورة وقضت على كل هذا فأصبحنا نتمنى عودة النظام الذي كان يعطينا ذلك".

ولا يخجل البعض من ترويج الفكرة الخرقاء بأن الذين ثاروا على الظلم والطغيان والفساد يريدون أن يعيدونا إلى الماضي؟؟؟؟؟ فيصفق لهم البُلَهَاء، مرددين بلغة ببغاوية غريبة "والله كلامك عين الصواب"!!!!

 

وبعيداً عن الخوض في هذه السطحيات الجوفاء، والكلام الأخرق، لا بد من التوقف عند حقائق يدركها كل ذي عينين لكننا نتعرض لها من باب تأكيد المؤكد وأهمها:

أولا: لا تقوم ثورة بدوافع التهور أو شهوة الشهرة أو حتى الغضب اللحظي والاستياء المؤقت لأنها لو كانت كذلك لانفض الناس من حولها، فالثورات هي تعبير عن بلوغ صبر الشعوب قمته ونفاد قدرتها على العيش في ظروف ما قبل اندلاع الثورة واستعدادها لتقديم أغلى ما تملك في سبيل التغيير، وبالمقابل عجز النظام القائم عن مراجعة سياساته بما يضمن له زمناً إضافيا لحكم البلاد، وربما رهان القائمين على النظام على (غفلة) الشعب أو خداعه أو سحق إرادته بالقوة المفرطة وهذا ما أبدته معظم الأنظمة التي ثارت عليها شعوبها عبر التاريخ، وليست حالة اليمن طارئة أو فريدة.

ثانيا: لا توجد ثورات حمقاء ولا توجد شعوب غبية أو حتى متهورة، لكن يمكن وجود قادة حُمَقاء ضعيفي التقدير سيئي البصيرة أو حتى انتهازيين ومتصنعين أو متهورين وطائشين، بيد إن هذا النوع من القادة ينفضح عبر الزمن وتكشفه المواقف العصيبة والمعتركات الجادة.

ثالثا: لا توجد ثورة ولا حتى حركة تستطيع أن تعيد الشعوب إلى الماضي، ببساطة لأن التاريخ البشري يذهب في خط أحادي الاتجاه، تصاعدي إلى الأمام إلى المستقبل إلى الأعلى وإن اتخذ الحركة الحلزونية والزجزاجية في بعض الأحيان، وهي حركة قد لا تخلو من تراجعات ومراجعات، وأي محاولة معاكسة لمسار التاريخ مصيرها الفشل والإخفاق وإن نجحت جزئيا أو مؤقتاً، ببساطة لأنها ضد قانون من قوانين الطبيعة والكون والمجتمع وهو قانون الصيرورة والتقدم، لكن موضوع الحنين إلى الماضي لا يعني بالضرورة العودة إلى الماضي ولا يمكن أن يؤدي إليه، والسؤال الجوهري هو متى يحن الناس إلى الماضي ولماذا؟

 

إن الناس يتحسرون على الماضي ويحنون إليه عندما يشعرون بأنه كان أفضل من الحاضر ومن المستقبل المرتقب الذي تلوح ملامحه من معطيات الحاضر، ومع كل ذلك فإن هذا الحنين يكون إلى ما في الماضي من مقومات جميلة ومعطيات إيجابية وقيم خالدة، ومصالح مادية ومعنوية ملموسة يتلقاها السواد الأعظم من الناس، لكن بالتأكيد ليس إلى ما قد يشوب هذا الماضي من مساوئ وهي أمر ملازم لكل تاريخ.

 

وفي كل الأحوال فإن الحنين إلى الماضي لا يمكن أن يعيد الماضي والشعوب التي تثور على واقعها البائس وترفضه إنما تتطلع إلى مستقبل أفضل من الحاضر والماضي معاً وهذا ما لا يستوعبه أو لا يرغب أن يستوعبه السطحيون والمخادعون.

رابعاً: إن من دمر الخدمات الأساسية ومتطلبات الحياة الضرورية للمواطنين ليس الثوار والثورة، بل الأنظمة الفاسدة والاستبدادية التي لم تنجح في بناء قاعدة متينة لهذه الخدمات قابلة للحياة في أي ظرف وتحت أي متغيرات، الأنظمة التي تقاوم إرادة الشعب وترفض التخلي عن التحكم في مصيره ومعاقبته في حقوقه ومقتضيات حياته أما الشعوب فلا تثور إلا من أجل تحسين وتعميق وتطوير هذه الحاجيات الضرورية التي لم تعد محل نقاش أو تفاخر في أي مكان من العالم.

خامساً: إن الكهرباء والرواتب والماء النقي وخدمات البلدية والتعليم والتطبيب وغير ذلك من حاجات الناس الضرورية، هي حقوق عرفتها الشعوب منذ مئات السنين، ولنقل منذ نحو قرنٍ مضى، وهي لم تعطَ للشعوب هبةً من حُكَّامِها بل إنها حقٌ من حقوق الشعوب تستعيد من خلاله حصة كل فرد من الثروة الوطنية ومن الضرائب والرسوم والأسعار التي تذهب إلى خزائن النظام، وليس من حق أي حاكم أي أيٍ من موظفيه أن يمن على الناس بها أو يهددهم بقطعها، وعندما تتوقف هذه الخدمات والحقوق فإن هذا يشير إلى نهج العقاب الجماعي الذي تتبعه الأنظمة الفاسدة والقمعية تجاه الشعوب الثائرة ومن هنا فإن النظام الذي لا يوفر هذه الخدمات ينبغي أن يزاح وأن يقدم قادته للمساءلة والمحاكمة ولس التباكي عليهم والمطالبة بتخليدهم، حتى يوفروا لنا ما دمروه من خدمات.

 

وأخيراً: إن من يتهم الثوار بأنهم يريدون العودة إلى الماضي، ثم يتباكى على النظام الذي دمر حقوق الناس وعبث بها وأوصل البلد إلى نقطة الانهيار ويطالب بعودته إنما يتناقض مع نفسه ويكشف أنه ليس خصما للماضي بل هو خصم لماضي محدد وهو يتمنى أن يعود من الماضي أسوأ ما فيه لأسباب لا يعلمها إلا الله ومن يروجون لهذه الأقاويل وحدهم.

 

د. عيدروس نصر ناصر