الجنوبيون عندما نالوا الاستقلال لم يدركوا حينذاك إن لديهم وطن رائع بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ، تتوفر فيه كل مقومات الدولة الناشئة المترامية الأطراف ، من حيث المساحة الكبيرة ،والثروات النفطية ،والغازية والمعدنية، والبحار المليئة بالثروات السمكية ،والموانئ الدولية الهامة، ويأتي في طليعتها ميناء عدن الاستراتيجي، الذي يقع على ملتقى الشرق والغرب ..كما تطل موانئ المكلا وبير علي ونشطون ،على بحر العرب .
لم يدركوا أن لديهم رأسمال بشري يبني الاقتصاد من العدم في طليعته الرجال الحضارم الذين يتمتعون بعقليات تجارية فذة ويحولون التراب إلى ذهب بمهارتهم وعبقريتهم .. إلى جانب رجال شجعان محاربون بالفطرة من شبوة ويافع والمهرة وأبين ولحج والضالع..وعدن بمدنيتها التي سبقت سائر مناطق الجنوب الأخرى بكوادر علمية وعصرية نادرة أغلب شبابها تخرجوا من الجامعات البريطانية والغربية وتفوقوا في مختلف المجالات علما وحضارة ورقيا !!
لم يدرك الجنوبيون أنهم بعد خروج بريطانيا قد ورثوا عنها أفضل الأنظمة الإدارية في الشرق الأوسط !!
فماذا فعلوا بها و بوطنهم وأبناء جلدتهم عندما نالوا الاستقلال ؟؟؟
لقد قامت الجبهة القومية وأنصاف المتعلمين من أعضائها بإقصاء كل ألوان الطيف السياسي الجنوبي كما لاحقت معظم الكفاءات العلمية النادرة وانتهج وريثها : (الحزب الاشتراكي اليمني ) نقل الماركسية حرفيا لتطبيقها في الجنوب (وجارك من البدوي لا تمسوق )!!!
ومارس أعضاء الحزب أعمال القتل العلني ،ضد المواطنين، وأمموا الأراضي الزراعية والمساكن، وانتهجوا التطرف والتبعية في السياسة الخارجية، وأدمنوا الصراعات الداخلية الدموية وقاموا باغتيال رفاقهم.. فدمرتهم نظرتهم القصيرة المدى ودمرت الجنوب وسلموه لقمة سائغة لقوى التخلف والظلام!!
واليوم يكرر أبناء الجنوب نفس الخطأ والخطيئة ولم يعتبروا ولا زالوا يتمسكون بالمناطقية والقبلية والتطرف وان بصور أخرى... تجاذبات ومهاترات وصراعات على الوظائف وعلى المصالح و أضاعوا التصور الاستراتيجي لبناء وطن كبير فيه كل إمكانيات الخير والتقدم.
ومن المفارقات العجيبة إن كافة القوى السياسية في الجنوب يتفقون على استعادة الدولة والوطن الجنوبي بحدود ما قبل عام 1990م ومع ذلك لا زالوا أسرى الماضي الدامي!!
ولكن هل سأل أي جنوبي نفسه :لماذا الشماليون بمختلف أطيافهم السياسية اليسارية واليمينية والدينية والطائفية والعسكرية والقبلية متوحدون أمام الجنوب ..واعتباره جزء لا يتجزأ من ممتلكاتهم رغم خلافاتهم وتبايناتهم إلا أنهم سرعان ما يتركونها من اجل أن يبقى الجنوب تحت إدارتهم ووصايتهم !!
وفي المقابل نجد الجنوبيين لا زالوا أسرى الماضي يستجرون خلافاتهم وأحقادهم ولم يتفقوا على بناء وحدة وطنية حقيقة تضمن استعادة دولة الجنوب ونجدهم لا زالوا يتخاصمون تحت عناوين : الثورة والرجعية والثورة المضادة والعمالة واليمين واليسار والطغمة والزمرة وأصحاب الفيدرالية وجنوب عربي وجنوب يمني ويبيعون ويشترون فيه كأنهم في مزاد علني دون حياء ولا خجل ويقبلون بالوصاية عليهم للدخلاء أولمن يدفع لهم مالا أو يسند إليهم وظيفة ولو كانت وضيعة كبرذعة الحمار ويرتضىون لأنفسهم التبعية والإهانة الخ ..
كل تلك الأمور ما هي إلا عناوين وشماعات تخفي تحت عباءتها نزق وأطماع الذات الجنوبية للوصول إلى السلطة ولم نتعلم من دروس الماضي رغم ما مر علينا من تجارب حيث يشهر كل طرف سلاحه في وجه الآخر عند أول خلاف!!
ما أشبه الليلة بالبارحة إنهم يكررون نفس الأخطاء القاتلة و ليس لديهم الصبر والإخوة الحقيقية ولا يمتلكون غير الخداع والعقلية التآمرية ضد بعضهم البعض !!
إنني أدعو كل أبناء الجنوب من على هذا المنبر الحر أن يعودوا إلى رشدهم ويحكموا عقولهم
فالوطن يتسع للجميع وهو بحاجة إلى بناء جيش واحد وامن واحد وإدارة واعية وبرجال نظرتهم صادقة للوطن وطموحاتهم كبيرة بحجم هذا الوطن !!
والسؤال الذي يطرح نفسه علينا هو: أين كنا ..وأين أصبحنا؟؟
عشية الاستقلال كان الدينار يساوي 2.13281 غرام من الذهب الصافي. هذا يساوي بعملة اليوم ....
83.18 دولار ويساوي ....
83.18x 520 =
43235 ريال يمني راتب موظف أي أن موظف اليوم يحصل على دينار جنوبي بعملة 1967 فأي انهيار هذا للعملة والقيم الإنسانية!!!
فكيف نتجاوز تلك الانتكاسات ؟؟
إن استعادة العملة الوطنية لبعض ما فقدته لن يكون إلا بعد توقف الحرب وعودة حركة الاستثمار وتد فق العملات الأجنبية وتد فق المساعدات والقروض وتصدير النفط والغاز وتشغيل الموانئ .. وعلينا انتهاز فرصة تواجد أشقائنا في دول التحالف العربي لتأسيس مستقبل زاهر للجنوب ولليمن ونعود كما كنا سابقا (وكل شعب بعيده راضي )!!
علينا نبذ الخلافات وبناء أجهزة الدولة بناءا مهنيا وليس مناطقيا قبليا فذلك فيه كل الشر على الجنوب حاضرا ومستقبلا.
البلاد اليوم ممزقة بين عدة جيوش وقوات وإدارات تعج بالقتلة والمجرمين وبعديمي الكفاءة والمؤهلات.. اللهم إلا لأنهم ينتمون لهذا الطرف أو ذاك.
وقد قال المبعوث الأممي السابق ولد الشيخ أحمد ،كلاما خطيرا لأطراف النزاع في اليمن : "هناك سياسيون من كافة الأطراف ،يعتاشون من الحرب ،وتجارة السلاح والمال العام ، لهذا لا يمكن للحرب أن تنتهي ،في ظل استمرار نفس الأشخاص ،في معركة صنع القرار السياسي والعسكري "
وقد صدق ولد الشيخ فيما قال، وأصاب كبد الحقيقة .. وهذه الفئة من تجار الحروب ،لا تعيش إلا في ظل الأزمات والحروب ..ولا تقتات إلا على أشلاء الشهداء .. ولا تنتعش إلا برائحة الدماء، وإزهاق الأرواح البريئة ،ولا يهمها إلا مصالحها ومكاسبها غير المشروعة .. وهي شراذم متفرقة ،هنا وهناك لدى أطراف النزاع في اليمن !!
أما الثوار الحقيقيون ، فهم من يضحون بأنفسهم وأموالهم ،ويدافعون عن شرف الوطن وكرامته ، ولكنهم ندرة في هذا الزمن الردئ .. فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر ،..ومن سقط منهم شهيدا في ميادين الشرف ،لا زالت ذكراه تناطح الجبال الشم الراسيات ،وتفوقها طولا وشموخا !!
ومنهم الشهيد علي ناصر هادي ،
وفي هذا المقام، لا ننسى تضحيات الألآف ،من رجال الجنوب، في كل شبر من ترابه ،سقطوا وهم يدافعون عن كرامة الجنوب ..عندما اختاروا الموت على الحياة فداء لأهلهم ولشعبهم .. ولا زالوا أحياء في قلوبنا ، ولا شك أنهم يتألمون في قبورهم ..لما يجري اليوم من صراعات وتناحرات، وانقسامات ،بين أبناء الجنوب ،من أجل المناصب والمصالح .. ولو نطق هؤلاء الشهداء لقالوا لنا :"كفاكم عبثا بشعب الجنوب ،وثقوا أنكم لن تستعيدوه وأنتم على هذا الحال، من التشرذم والشتات والخلافات "
ونحن نقول لهؤلاء المتصارعين : كفاكم عبثا ،فعندما تموت الضمائر، يصبح الوطن حديقة دون أسوار، ولن يكون الشعب كما تريدونه قطيعا من الأغنام تتربص به الذئاب !!
عندما تموت الضمائر، وتنزع الذاكرة .. وتسلب العقول ،تهون الأوطان والأعراض ،وتسقط القيم والأخلاق .. وتباح المحظورات .. وتنعق البوم والغربان السوداء على أطلاله !!
وطن يريد الخونة من أبناءه بيعه بحفنة من المال الحرام ولكن هيهات .
د.علوي عمر بن فريد