التاريخ أعظم معلم للبشرية، فيه الحِكم والعبر، فيه التجارب والسير، منه نعرف الصواب فنتبناه ونعرف الخطأ فنتفاداه. التاريخ هو الأساس الذي تبنى عليه البنيان الشامخة، هو الأصل الذي منه تتفرع الفروع.
إن الحكمة تقول الأمة بلا تاريخ ميزانها صفر بين الأمم، وفي الحقيقة ليست هناك أمة لا تاريخ لها، إذ كيف يُعقل أن يوجد حاضر لا ماضي له، وإنما هناك طمس وتزوير للحقائق، إما لتضليل الحق وإما لأن تاريخهم لا يُشرِّف بأحداثه البشعة، أو أن فترة من الزمن لم تدون. وكثير من الدول ممن لم يدون تاريخها تخلق أشخاصاً وهميين وأبطالاً أسطوريين من الخيال، وتنفق أموالاً باهظة على مثل تلك المشاريع.
عندما انفردت " الجبهة القومية " بحكم الجنوب بالتآمر مع بريطانيا منذ العام 1967م وأقصت كل القوى السياسية في الجنوب من أحزاب سياسية ومنظمات وجمعيات ..كما عملت بريطانيا على إسقاط كافة سلطنات وإمارات الجنوب العربي وقامت بترحيل رموزها خارج البلاد !!
كما قامت بريطانيا بتحويل ولاء جيش الجنوب لصالح الجبهة التي أخضعت البلاد به وبمليشياتها ..وحكمت الجنوب بالحديد والنار منذ العام "1967م – حتى العام 1990"تاريخ إعلان الوحدة اليمنية ..مارست خلال فترة حكمها أبشع الانتهاكات القمعية بحق المواطنين من اغتيالات وتصفيات جسدية طالت كل شرائح المجتمع الجنوبي ورموزه الحية من أحزاب سياسية وعلماء دين وشيوخ وفرسان القبائل وتجار وشعراء وحتى المواطنين البسطاء ،كما تحولت الجبهة إلى غول دموي قمعي تحت مسمى الحزب الاشتراكي اليمني الذي مارس كل أنواع الفجور والانحلال وسعى إلى تدمير قيم وأخلاق المجتمع الجنوبي وأشاع الفساد وأباح الخمور وأسس مصانع خاصة له لتغييب الوعي الديني وتدمير أخلاق المجتمع ..كما قام بنهب وتأميم ممتلكات المواطنين وتمليكها لمن لا يستحق من أنصاره وتحولت البلاد إلى سجن كبير وفرض عليها الستار الحديدي ورغم ذلك هرب ثلث سكان الجنوب من ديارهم ..إلى اليمن والى دول الجوار .
وتفرغ الحزب بعد ذلك لتصفية بعضه البعض وشهدت البلاد سلسلة من التصفيات الجسدية داخل بنية الحزب تحت مسميات غريبة مثل : اليسار واليمين والزمرة والطغمة وشهدت عدن أبشع مذبحة بشرية بين الفئتين عام 1986م انهارت خلالها الدولة ولجأ البيض وأتباعه إلى الوحدة للنجاة برقابهم وفرح الجنوبيون بالوحدة للخلاص من حكم الرفاق ولم يخطر ببالهم أن القادم سيكون أسوأ...يقول الزعيم الجنوبي البارز السيد عبدا لرحمن الجفري :
((تاريخ جنوب الجزيرة العربية هو تاريخ انقسامي في الأصل، والكذبة الكبرى أنه كان هناك يمن واحد، وهو الأمر الذي لم يحدث في التاريخ سواء قبل الإسلام أو بعده، بل لا توجد دولة في التاريخ تسمى دولة اليمن إلا في عهد الإمام يحيى عام 1918، ووقتها أطلق على مملكته اسم المملكة المتوكلية اليمنية بعد أن كانت الإسلامية ثم الهاشمية، وكانت أول دولة في التاريخ تسمى اليمن، قبل ذلك كانت تسمى بأسماء أخرى كدولة حضرموت، دولة معين، دولة حمير، دولة سبأ، وبعد الإسلام لم يكن هناك دولة باسم اليمن ولكن كانت هناك أسماء أخرى كالدولة الزريعية والصالحية الأيوبية، أما الجنوب العربي «يقصد جنوب اليمن» في تعريفنا كجنوبيين فكان عبارة عن مستعمرة بريطانية تسمى «مستعمرة عدن».
وكانت هناك محميات لهذه المستعمرة شرقية وغربية عبارة عن سلطنات وإمارات ، وحزب الرابطة أطلق على كل هذا اسم «الجنوب العربي» بغرض إطلاق هوية واحدة لهذه المنطقة التي كانت تحت الحكم الاستعمار البريطاني، لاحقا تواترت دعوات بأن الجنوب تابع لليمن «الشمال» وهذا الكلام غير الصحيح تبنته حركات بالشمال خاصة حركة القوميين العرب، وكان ادعاؤهم مبنيا على أن هدفهم وحدة اليمن وتمت الوحدة عام 1990 على عجل بين نظام كان يحكم الجنوب يسمى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وبين الجمهورية العربية اليمينية.))
لا يستطيع أحد أن ينكر أن مسيرة الوحدة اليمنية رافقتها منذ عام 1990 أخطاء كثيرة طالت القضية الجنوبية، وطالت بصورة خاصة البسطاء من أبناء الجنوب، الذين ضاعت آمالهم وحقوقهم في زحمة فساد الدولة، وتسابق بعض قياداتهم على السلطة والثروة قبل وبعد حرب 1994، التي حدثت بنتيجتها تجاوزات كبيرة كان من أبرزها تدمير ونهب ما تبقى من مؤسسات وأملاك الدولة في الجنوب تحت تسميات ومبررات مختلقة، كان منها ابتداع وتنفيذ مشروع «الخصخصة»، الذي رتب له خلال الفترة ما بين 2001 - 2007، وطال أكثر من 185 وحدة اقتصادية ومنشأة حيوية بيعت بأسعار بخسة، وترتب على بيعها انعكاسات كارثية على آلاف العمال والموظفين الجنوبيين، الذين تم الاستغناء عنهم وطردهم من المرافق العامة، التي عملوا فيها لسنوات طويلة، ثم فقدوا مصادر عيشهم ودخولهم اليومية الأساسية
وظهر التنافر بين اليمن والجنوب واضحاً في حرب الاستبداد في ١٩٩٤ وحرب الحوثيين في غزو الجنوب، إن الشعب اليمني في صنعاء رضخ للحكم الزيدي وكان هذا الرضوخ واضحاً في عدم قبول أي رئيس جنوبي من قبل عامة الشماليين، واتضح أن الوحدة لم تكن إلا مجرد احتلال عندما مارست سلطة الشمال طمس الهوية الجنوبية وتغيير العادات في الجنوب وإلغاء جميع أشكال الدولة في الجنوب وإعادة سلطة (الإمامة) في شكل الحكم وإلغاء القانون والعودة إلى التحكيم القبلي واستثارة الفتن بين قبائل الجنوب وإعادة فرض الثأر والانتقام بين أبناء الجنوب، وهذا ما حفز أبناء الجنوب المشاركين مع الشماليين في حرب ١٩٩٤، فهو لمجرد الانتقام وليس حباً في الوحدة، يعرف الجميع أن الوحدة لم تجلب لأبناء الجنوب إلا التعاسة والفقر والمرض والبؤس والجهل والتخلف، إن المقارنة بين الاستعمار البريطاني والاستعمار "الشمالي" تبين بوضوح مأساة شعب الجنوب، فببساطة نحن شعبين مختلفين في العادات والتقاليد وتركيبة النسيج الاجتماعي والمنظومة السياسية والقانونية، يهجو اليمنيون الجنوبيون والشماليون بعضهم بعضًا؛ حيث يعتبر في شمال اليمن الاشتراكيون أهالي الجنوب "شاربي جعة ملحدين"، وبالعكس يهجو سكَّان الجنوب أهالي الشمال ويعتبرونهم "محاربي قبائل متخلفين".
وفي الحقيقة لم يتوحَّد اليمن على الإطلاق. وصحيح أنَّ الرئيس علي عبد الله صالح الذي كان يحكم البلاد منذ ثلاثة عقود تمكَّن من المحافظة على وحدة البلاد من خلال القمع والترهيب و تقديم المال وتوزيع المناصب، إلاَّ أنَّ هذا الأمر يزداد صعوبة، وذلك لأنَّ موارد البلاد تنفد. فاليمن يعتبر واحدًا من أفقر بلدان العالم، ويؤدِّي هذا إلى تنامي حالة الاستياء خاصة في الجنوب الذي توجد فيه أكبر احتياطيات النفط، ولكن لا يصله سوى القليل من الإيرادات. وهذا المزيج من الأزمة الاقتصادية وعدم الثقة أدَّى إلى إعلان الاشتراكيين الانفصال من جديد - وكان ذلك بداية لحرب أهلية انتهت بانتصار الشمال على الجنوب ،ومن يزور مقر الحزب الاشتراكي اليوم في صنعاء يستطيع أن يرى الضعف الذي وصل إليه "الحزب الاشتراكي " فمبنى مقره منهار وقاعة الاجتماعات الكبيرة مهجورة وأصحاب السلطة في صنعاء اعتبروا الجنوب منذ فترة طويلة من ممتلكاتهم ، لقد استولوا على الأراضي والممتلكات وشردوا الأهالي ولا بد لهذا الظلم من نهاية !!
الدرس الوحيد الذي تعلمناه من التأريخ هو أننا لا نتعلم من التاريخ !!
وكما قال ونستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني :(من لا يتعلم من التاريخ يسقط في فخاخه) !!.. فهل تعلم الجنوبيون الدرس ؟؟ أعتقد أنهم لم يتعلموا شيئا بدليل ما يحدث في عدن اليوم من نهب وفوضى وانفلات امني وأنتم تعرفون ذلك أكثر مني !!!
د.علوي عمر بن فريد