الانتكاسات العسكرية التي تعصف بوضع القوات الموالية للسلطة المعترف بها دولياً (الشرعية) في عدة جبهات من جبهات القتال، وبالذات في شبوة والضالع - مريس - هي الأخطر منذ بداية الحرب قبل أكثر من 30 شهراً. لا شك في أن الحرب - أي حرب - لابد أن تتخلل سير عملياتها انتصارات وانكسارات قبل أن تبلغ نهايتها. وهذه الحرب الدائرة اليوم في اليمن، والمشتركة فيها أطراف محلية وإقليمية ليست استثناء من ذلك، وقد شاهدنا مراراً مثل هكذا وضع خلال الشهور الماضية، كالذي شهدته مأرب قبل أسابيع، حين تمت الإطاحة برئيس الأركان العامة بصورة مفاجئة، بعد اتهامه بالخيانة من قبل الرئيس هادي ودوائر «إصلاحية» إثر سلسلة انتكاسات طالت رؤوساً عسكرية كبيرة. ولكن ما يميّز الإنتكاسات الأخيرة في طرف قوات «الشرعية» هو أنها تأتي في خضم سجال سياسي حاد داخل طرف «الشرعية» و«التحالف»، ومتزامنة في عدة جبهات في آن واحد، إلى درجة يبدو معها وكأن ثمة تراخياً متعمداً قد حدث داخل هذه الجبهة لإرسال رسائل سياسية لجهة ما.
فحزب «الإصلاح»، الذي يشكل الكتلة الأكبر داخل «الشرعية» سياسياً وعسكرياً، ظهرت عليه حالة تذمر كبيرة من سلوك دول «التحالف» وبالذات الإمارات، حيث بات من الواضح أنه، وإن حاولت قوى داخله أن تضبط إيقاع حركته الصاخبة، ينظر للإمارات كدولة احتلال في كل الإراضي التي تسيطر عليها، بل وبرزت داخله مؤخراً أصوات تدعو صراحة للانسحاب من الجبهات، بعد أن «طفح الكيل» - بحسب تعبير كثير من هذا الأصوات - من التصرفات الإمارتية، وتعمّد الإمارات، بحسب قولهم، السعي لفصل الجنوب ودعم جماعات سلفية يرى فيها «الإصلاح» جماعات إرهابية كجماعة «أبو العباس» في تعز.
في السياق نفسه، وبالتناغم مع تخوف «الإصلاح» مما يسميه السلوك الإماراتي المريب، ومن خذلان «الشرعية» لتعز ولـ«الإصلاح»، اتهم محافظ تعز المستقيل، علي المعمري، قبل يومين، من بيروت، الإمارات بعرقلة حسم المعركة في تعز، من خلال منع الدعم عن «المقاومة» التي تقاتل بعشر دبابات فقط بحسب قوله، مضيفاً أن الإمارات لا تريد حسم المعركة في تعز خوفاً من سيطرة حزب «الإصلاح» على الوضع لاحقاً. كما شكا، قبل الإستقالة، من جهات داخل «الشرعية»، تتعمد التلكؤ عن صرف مرتبات موظفي محافظته تعز، وهذا الأمر كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر المعمري لتلقي به بعيداً.
أتت هذه التطورات في الوقت نفسه الذي كان فيه الطرف الآخر، الحوثيون وصالح، يستعرضون قواتهم بعروض عسكرية وجماهيرية ضخمة في مدينة تعز وأماكن أخرى. وللتنويه، فهذا الطرف يشهد سجالاً سياسياً لا يقل حدة عما هو عليه داخل طرف خصمه، لولا أن قناعة كل واحد منهما، صالح والحوثي، هي الحاجة الماسة إلى تحالف الضرورة، وإلا فإن هذا السجال كان سيفضي إلى أمور خطيرة.
وفي خضم السجال الحاصل داخل معسكر «الشرعية»، فمن غير المستغرب حدوث خضة عسكرية على جبهاتها، كانعكاس طبيعي لحالة الوضع السياسي المضطرب، والغياب التام لعامل الثقة بين أجنحة هذا الطرف. وعطفاً على ما تقدم، يكون من المنطق تصديق - ولو جزئياً - القول القائل بأن «الإصلاح» قد تعمد إفساح المجال أمام قوات الحوثيين وصالح لاستعادتها مواقع عسكرية، ليبعث من خلال ذلك برسالة سياسية بنكهة عسكرية لاذعة، ليس فقط للإمارات و«التحالف»، وإن كان الأخير هو المعني بدرجة أساسية، ولكن لأطراف أخرى على الساحة، منها الطرف الجنوبي والحراك الجنوبي و«المجلس الإنتقالي» بالذات، خصوصاً أن الجبهات التي شهدت هذه الخضة المفاجئة كانت في شبوة (بيحان وعسيلان)، وعلى تخوم الضالع (جبهة مريس)، وهذه الأخيرة يستحوذ حزب «الإصلاح» على قوات «الشرعية» فيها بشكل شبه كامل. وهذا ما استشعر خطورته الجنوبيون، وبدأوا على إثره حملة استنفار كبيرة - إعلامياً على الأقل - لمواجهة أي تطور على الأرض، في الضالع تحديداً.
وبالحديث عن هذه الجبهة - مريس -، لا بد أن نعرج على حدث مهم لا يمكن فصله عما جرى ويجري في سياق العمليات العسكرية الصعبة التي يعيشها طرف «الشرعية». فقبل الإنهيار الذي شهدته مريس بيومين فقط - إن صحت الروايات التي تتحدث عن انهيارات مع أن بعضها مبالغ فيه -، تمت إقالة كل قادة اللواء العسكري المرابط في مريس (لواء 83) بأوامر عسكرية أثارت حالة من الفوضى داخل اللواء - بحسب مصادر وثيقة حصل عليها كاتب هذا السطور -. وعلى الرغم من أن هذا اللواء يتبع عملياتياً وإدارياً لقيادة المنطقة العسكرية الرابعة في عدن، إلا أن هذه الإقالات والتعيينات البديلة أتت من مأرب، بطريقة تشي بأن ثمة تباينات تعتري رأس المؤسسة العسكرية الموالية لـ«الشرعية» عكست نفسها على الأرض. فقد تمت الإطاحة بقائد اللواء، العقيد قائد عبد الله مزاحم، ليحل محله قائد آخر يقال إنه موال لحزب «الإصلاح» وهو عادل الشيبة. كما تم تعيين أركان حرب جديد للواء، هو فضل النمري، الموالي للإصلاح بحسب المصادر.
لكن مصادر أخرى تقول إن المعينين حديثاً، وبالذات قائد اللواء، محسوبون على «الإشتراكي»، وإن «الإصلاح» ربما شعر بخيبة عزل الموالي له السابق، وأوعز لمقاتليه بالتهاون حيال تقدم الحوثيين. وهؤلاء الأخيرون تقول معلومات شبه مؤكدة إنهم باتوا على مشارف معسكر الصدرين المطل على مدينة قعطبة، التي تبعد عن الضالع المدينة 20كم تقريباً، مع أنني لا أميل إلى هذا التفسير بل إلى الأول.
بقاء هذا الوضع العسكري المضطرب، إن ظل كما هو أو ازداد سوءاً ولم يتداركه المعنيون بالأمر عسكرياً، ستكون له تداعيات خطيرة على الساحة الجنوبية، حيث أنه، إن ثبت فعلاً أن ثمة خديعة من قِبَل «الإصلاح»، سيكون الجنوب، وبالذات القوى التي تناضل لنصرة القضية الجنوبية، وبحكم ما يحيق بها من مؤامرات، في وضع صعب، وفي عين عاصفة غزو شمالي ثالث، ليس من المستبعد أن يكون هذه المرة باشتراك شركاء حرب 94م، فضلاً عن قوات الحوثي إن غامر هذا الأخير وارتكب حماقة كالتي أقدم عليها قبل الحرب بأسابيع.
فبالإضافة إلى كون الحوثيين وصالح يقاتلون عملياً على الطرف المقابل للذي يقاتل فيه الجنوب، فأن «الإصلاح»، وبعد مواقفه العدائية الأخيرة تجاه الجنوب وتجاه الإمارات، سيكون شريكاً في غزو مفترض، أو في أحسن حال سيلزم الحياد، مما يعني بالضرورة أن تكون الطريق سالكة أمام باقي القوة الشمالية جنوباً. وبالأخير، لم يبق للجنوب من ورقة يعول عليها، إن ظلت الرياح تهب بما لا تشتهيه سفنه، غير بأس الإرادة القتالية لمقاتليه.
*نقلاً عن موقع "العربي"