عندما كان صوت النازيين الجدد يتعالى في برلين وعدد من مدن أوروبا لم تكترث النُخب الأوروبية بهذا الصعود وحتى الرئيس الفرنسي جاك شيراك في الانتخابات الرئاسية 2002م لم يكن مُكترثاً وهو يحقق فوزاً كاسحاً على زعيم الجبهة الوطنية لوبن - الأب -، استدعى أصحاب الخطاب القومي في القارة الأوروبية كل مورثات القومية الأوروبية من مراقدها، وأسهمت أزمات الشرق الأوسط بتغذية ذلك الخطاب المأزوم بعد توظيف إعلامي اعتبر أزمة اللاجئين السوريين أنها تغيير ديموغرافي، متجاهلين أن هذه الأزمة سببها عدم قيام الغرب بدوره السياسي الذي كان عليه وضع حد لآلة القتل الوحشية التي يقودها نظام الأسد.
الفرنسيون تحولوا إلى مقياس لمدى صمود الليبرالية في وجه القومية، السباق بين ماكرون ولوبن جزء من صراع أيديولوجي دولي، فإن نتائج التصويت في فرنسا ستُراقب باهتمام بالغ في بقية العالم، وعلى رغم إدراك الفرنسيين أن ماكرون الذي يمثل حزب (إلى الأمام) الذي لم يختبر سياسياً فإنهم أي الفرنسيين يعلمون أن إزاحة لوبن عن الرئاسة هو انتصار بحد ذاته حتى وأن عاد ماكرون للنهج التقليدي السياسي بعد التأثير الدولي وانكفاء فرنسا على نفسها فهذا أفضل من أن تسقط في شِراك الجبهة الوطنية.
صنعت فرنسا وألمانيا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية شكلاً لبلاد تنتصر لـ (حقوق الإنسان) نجحت تلك القاعدة في تذويب الشعوب الأوروبية بأعراقها وقيمها وأعرفها في مشروع سياسي موحد يقوم على النظام والقانون، تلك القيم التي خُلقت بإرادة سياسية أدركت أن الفاشية والنازية لم تكن سوى أفكار دمرت ولم تبني، لذلك قادت فرنسا وألمانيا أوروبا وتحولت إلى بناء التكتل الأوروبي الذي أصيب عملياً بالهشاشة فبدأ بالتفكك مع خروج بريطانيا في 2016م.
الرئاسة الفرنسية ستكون سباقاً كلاسيكياً بين شخصية قومية وشخصية عالمية، لوبن تُريد إخراج فرنسا من العملة الموحدة الأوروبية، وزيادة الرسوم الجمركية، وتعزيز الضوابط الحدودية، وتشديد القبضة على الهجرة. وماكرون مؤيد قوي للاتحاد الأوروبي، ومؤمن بالتجارة المفتوحة، وصاحب موقف ليبرالي تجاه اللاجئين، هذا التضاد بين طرفي السباق على الإليزيه يؤكد مسألة مهمة تتبلور في أن البرامج السياسية اللاهثة صوب التحديات انحسرت وتراجعت، فلم تعد القوى السياسية الأوروبية قادرة على ابتكار الحلول في مواجهة الصعوبات الطارئة.
عندما تخاطب لوبن الشعب الفرنسي بمصطلح (العولمة الشرسة) وتجد فريقاً من الفرنسيين يصغون ويصفقون ندرك أن البُنى التحتية مصابة فعلياً بالهشاشة، فكيف بالشعب الفرنسي الذي كان صاحب الراية العالية في تقديم العولمة والتبشير بالليبرالية أن يخشى من انهزام القيم التي قدمها للعالم، هذا الاضطراب يعززه ما وصف به ماكرون السيدة لوبن أنها (الطاعون الأشقر)، وبوادر هزيمة الطاعون في انتخابات الرئاسة الفرنسية 2017م تبدو مريحة للجميع لكنها ستختلف بعد خمسة أعوام إن لم يتم بلورة أفكار جديدة لحلول تعالج أزمات إنسانية تجاوزت حدود الشرق الأوسط ووصلت إلى كل العالم.