بعد طرد القوات اليمنية الشمالية الموالية للرئيس السابق علي عبدالله صالح و(حركة أنصار الله) الحوثيين من عدن كان الحديث عن دمج المقاومة الجنوبية بمؤسستَي الجيش والأمن في أوجّـه من قِـبل الإعلام الموالي لشرعية الرئيس عبدربه منصور هادي وبالذات إعلام حزب الإصلاح,-وحتى من قبل بعض إعلام الحراك الجنوبي -وإن كان هذا الأخير أنجر بحُسن نية وعن جهل بما يجري بدهاليز السياسة وكواليسها, وبالتركيبة المختلة للجيش منذ عام 94م- على افتراض كان سائدا لدى أطراف الشرعية أن الحسم العسكري الى قبل أشهر بالشمال أصبح قريب المنال, وأن فكرة دمج المقاومة الجنوبية سيتم - وفقا لتلك الحسابات- في إطار الجيش اليمني الواحد الذي سيكون حينها- وفقا لتلك الحسابات أيضاً- موالياً لها وخاليا من أي وجود لصالح الحوثيين,هذا فضلاً عن كونه أصلا شبه خالي من الوجود الجنوبي منذ أكثر من عقدين من الزمان.
ولمّا أتت الرياح بما لا تشتهيه سفن السلطة اليمنية الموجودة بالرياض وطالت معها المدة -حتى الآن على الأقل-, فقد كان مصير فكرة الدمج ملغية- أو مؤجلة في أحسن حال- حتى يتبين لها أي لتلك السلطة الخيط الأبيض من الأسود, والسبب هو أن هذه السلطة التي توصف بالشرعية لا يوجد لديها جيشا في ذلك الوقت -وحتى الآن- لا يوجد جيشا حقيقيا بمعنى الجيش المتعارف عليه حتى يتم الحديث عن دمج عشرات الآلاف من المقاومة في إطاره. وهذه الشرعية بالتالي ترى أن أي دمج للمقامة الجنوبية بالجيش وهو على شاكلته هذه سيكون للمقاومة الجنوبية وزنا عدديا ونوعيا فيه وهذا ما تتحاشاه وتخشاه حتى في حال أن دمجت معها المقاومة الشمالية أيضاً, وحتى ايضاً مع تكديسها للأسلحة الثقيلة الهائلة التي تستلمها من التحالف الى المخازن(( هناك صفقة سلاح ضخمة تقوم باستيرادها قيادات اصلاحية من الخارج عبر جمهورية السودان ,ما تزال هذه القيادات بالخرطوم منذ أيام لإتمامها ,وهي صفقة مجهولة المصدر والمستقر,ومبهمة التفاصيل والكُـلفة, فهذه الاسلحة وغيرها التي يتم تكديسها لا يشك ان تُدخر للمستقبل,في تثاقل واضح بجبهات الحرب اليوم )), هذا علاوة على توجس هذه السلطة من الوجود الجنوبي وبالذات الحراكي الثوري بعدد من مفاصل السلطات المحلية والأمنية بعدد من محافظات الجنوب, والتي تسعى هذه السلطة الشرعية لإفشال كل جهود السلطات الأمنية والمحلية ,(( في عدن نموذجا لذلك)).,ولهذا كانت مماطلة دمج المقاومة الجنوبية وستستمر الى أجلٍ غير مسمى. وربما هي ضارة نافعة للجنوب.
فرِهان شرعية هادي وحزب الإصلاح بعملية دمج المقاومة الجنوبية بالجيش اليمني بشقيه الموالي للسلطة اليمنية في الرياض أو بصنعاء مبنياً على معرفتها بحقيقة تركيبة الجيش اليمني المختلة لمصلحة الشمال منذ نهاية حرب94م. فمنذ تلك الحرب تم اقصاء الأغلبية العظمى من الجيش الجنوبي من مواقعهم إلا نسبة ضئيلة لا حول لها ولا طول, ظلت محسوبة على أصحاب النفوذ الجنوبي في سلطة ما بعد 94م,بالتوازي مع استمرار رفد جيش ما بعد ذلك العام بالعنصر الشمالي عددا وتأهيلاً وتسليحاً وسطوة وهيمنة بالقرار. أي الغلبة في الجيش هي شمالية بامتياز ,والعنصر الجنوبي العسكري اضحى أكثرية مقصيّـة بالبيت, واقلية مخصيّـة بالمعسكر.
وهذه الصورة داخل القوات المسلحة هي صورة مصغرة للوحة الأبرز الأشمل لعملية استبعاد معظم دولة وشعب ونحب الجنوب من مجمل المجالات بدولة ما بعد 94م وعلى رأسها المجال السياسي والأمني والاستخباراتي الى جانب العسكري بالطبع.
فالتآمر على الجنوب بالجانب العسكري اليوم كما هو بالجانب السياسي لقضيته الوطنية لا يحتاج الى فراسة ولا الى حدس الاذكياء والعباقرة ليكتشفه فهو أوضح من الشمس برابعة النهار,و يندرج ضمن فلسلفة سياسية استحواذية مترسخة منذ سنوات تجدد نفسها كلما دعت الحاجة. فكيفي أن يعرف الجميع ماذا يعني إبقاء الجيش الجنوبي- أو ما تبقى منه- الذي تم تغييبه منذ عام 94م مقصياً داخل دائرة التجاهل حتى بعد الانتصار العسكري الحاصل اليوم؟. وعلى هذا قس الوضع وحالة بالجهاز الأمني والاستخباراتي الجنوبي, فهذين الأخيرين أيضاً يتم تجاهلهما بذات القدر تقريبا الذي تم مع الجيش الجنوبي, في الوقت الذي تشتد الحاجة لهما في ظل وضع أمني خطير وتحدي صريح من الجماعات الارهابية والفوضوية. بل أيضا أن ثمة اجراءات غريبة ومريبة تتم بهذا الشأن ,منها على سبيل المثال انشاء جهات امنية متعددة الولاءات مجهولة الانتماء بنفَــس مناطقي(( الى درجة اننا نخشى ان نصحوا وقد أصبح لك محافظة مليشيات خاصة بها)) لتكون على شكل جهاز أمني موازي بمسحة مليشياوية وصبغة دينية طائفية, ما يعني ذلك تضارب القرارات وتصادم الإجراءات كانعكاس طبيعي لتعدد هذه الجهات التي تقف خلف هذا الكوكتيل الغريب التي لا يغيب على بال أحد أن كثير منها تخفي اجندة سياسية لا علاقة للشعب بالجنوب بها, وتضم بمعطفها روزنامة فكرية خطيرة. تأتي هذه الخطوات المريبة في نفس الوقت الذي يتم فيه تثبيط وتشويه أي جهود أمني من قبل السلطة الأمنية الرسيمة, والتي تحاول ان تلملم شتاتها بصعوبة من بين الانقاض ,مع إقرارنا أن ثمة أخطاء وتجاوزات ترتكبها بين الفينة والأخرى.
قد يقول قائلا ان الجنوبيين اليوم هم من يسيطروا على الارض, وبوسعهم أن ينفذوا مشروعهم بأيديهم. هذا القول فيه جزء من الحقيقة ولكن جزء منها يقول ان الجنوبيين وبالذات الحراك الجنوبي الثوري ليس مسيطرا إلا على القليل من مساحة الجنوب(فحضرموت وشبوة اللاتي تشكلا النسبة الأعظم من مساحة الجنوب ما زالتا تحت سيطرة قوات عسكرية تدين بالولاء للسلطة اليمنية في الرياض وصنعاء, وان الانتصار العسكري الموجود بالجنوب له أكثر من أب ومدعي,وهذا بالتالي يقودنا الى حقيقة أبرز وهي ان الجنوبيون اليوم ما زالوا أضعف من أن يتخذوا قرار استعادة الجيش الجنوبي السابق أو ما تبقى منه , ولا حتى بمقدورهم انشاء جيش حديث في ظل ضبايبة الموقف السياسي للحلفاء تجاه الجنوب( مع انني شخصيا لديّ قناعة راسخة بأن هؤلاء لا يميلون البتة الى الاقتراب من المشروع الجنوب بل لم يعلنوا تصريحا ولا تلميحا ذات يوم أنهم قريبون منه, بل وعلى العكس ايضاً فهم أكثر من محفل دولي واقليمي يؤكدون على بقاء وحدة 94م والحفاظ عليها, وخير دليل على صحة ما نقول هو تصميمهم على تضمينهم لقرار 2216 الأممي لفقرة تؤكد على سلامة وحدة اليمن كماهي, وكذلك كانت المبادرة الخليجية الشهيرة بالشأن اليمني.
فكلما يقدر عليه الجنوبيون اليوم وما يجب أن يتمسكوا به هو تأسيس قوة عسكرية ولو من تحت الطاولة تأخذ الصفة الأمنية لا العسكرية المستفزة للخصوم ((وما أكثرهم )) بالاستفادة مما هو متاح لهم بهذه الظروف, مع الحفاظ على القوة الأمنية التي تم تدريبها بالأرياف وبالمدن بالأشهر الماضية, أما الرهان الكامل على التحالف وسلطة الشرعية اليمنية بإنشاء جيش بالجنوب فهو السراب بعينه وغباء طافح, فهل يمنحك خصمك مسدسا لتشهره بوجه ذات يوم؟, ولكن بالمقابل تجاهل هذه القوى الاقليمية واليمنية يعتبر خطأ كبيراً ومجازفة خطرة.!
* قفلة: الحياة مليئة بالحجارة, فلا تيأس أن تعثرت بأحدها بل أحملها وابن بها سُلَّم الى العلا.