كلّ من استطاع أن يحكم اليمن، صنعاء تحديداً، لفترة طويلة أو حتّى قصيرة، خلال عشرات السنين الماضية، لم يحكمها إلّا برضاء محيطها القبلي والجغرافي والديني، والتصالح معه، ولو على مضض، وبعدما استوعب القوى الفاعلة فيه، التي تمتلك أسباب القوّة والتأثير، وتوحيّدها في أسوأ الأحوال، بصرف النظر عن مشروعية هذه القوى، التي تتوزّع بين قبلية ودينية ومذهبية وجغرافية وجهوية وتجارية وسياسية، ومشروعية أدواتها وطرقها، التي عادة ما تكون -ومازالت- أدوات ابتزاز ومصالح وتكسّب، تارة باسم الوطن، وتارة أخرى باسم الدين، وحتّى باسم القبيلة.
اليوم، يقبض على ناصية الأمور في اليمن عدّة قوى من الداخل والخارج، قبلية وحزبية وسياسية ودينية، بمختلف تفرّعات هذه الأخيرة المذهبية والطائفية المتشدّدة. وجميع هذه القوى تعرف، أو الأحرى بها أن تعرف، أن ليس بمقدور أحد منها أن يتفرّد بحكم صنعاء، ناهيك عن حكم اليمن كلّه.
هكذا يقول منطق التاريخ القديم، وهكذا تحدّثنا تجارب التاريخ المعاصر؛ فلم يستطع الأئمة، خلال عشرات السنين من حكمهم لليمن الشمالي، أن يبسطوا سلطانهم بأريحية وهدوء، حتّى في عزّ معاقلهم إلّا بالتراضي، وخطب ودّ الشافعي والقبيلي والرعوي حتّى.
وحين انتهى هذا العهد، لم يستطع حكّام الجمهورية أن يديروا شؤون البلاد ويبسطوا نفوذهم بشكل تامّ، حتّى في المناطق الأكثر ولاءاً للعهد الجديد، إلى أن أتى عام 1970م لتتوّج فيه المصالحة الشهيرة، بين الملكيّين والإماميّين، ويعود الوضع إلى وضع مزيج من الجمهورية والملكية، ويذوب الكلّ في الكلّ. بعد ذلك، لم يتمكّن حاكم لصنعاء من دون أن يحوز رضا أو شبه رضا الكثير من القوى، منذ حكم الرئيس الجمهوري السلال، حتّى فترة حكم الرئيس السابق صالح.
والقوى التي أطاحت بالأخير بعد ثلاثة عقود من الحكم، لم تستطع أن تحكم منفردة، وعمدت إلى مصالحة سريعة معه ومع مؤيّديه، قبليّين وحزبيّين، ومشاركته الحكم بعد فترة جفاء بينهم. وأتى شهر سبتمبر 2014م حاملاً معه سيطرة جماعة "أنصار الله" على صنعاء، وطرد القوى المناوئة لها، إلّا أن هذه الجماعة سرعان ما تداركت خطأها، وشرعت تنسج خيوط التحالفات حتّى مع ألد خصومها- صالح وحزبه- (ستّ حروب خاضها الطرفان في محافظات شمال الشمال)، وحاولت استمالة البقية، بمن فيهم حزب "الإصلاح"، لإدراكها أنّه من الصعوبة بمكان بل من المستحيل لأيّ قوّة، مهما بلغت من القوّة والتنظيم، أن تحكم صنعاء -ولا نقول اليمن كلّه- في ظلّ صراع مع الآخرين وتجاهلهم. فإن كانت القوى التي سبقت هذه الجماعة في حكم صنعاء، منذ عام 62م، لم تستطع أن تحكم، وهي تستمدّ الدعم الإقليمي والدولي، وتحظى بدعم داخلي أكثر ممّا تحظى به الجماعة الحوثية، فكيف للأخيرة وهي فاقدة هذا الدعم أن تحكم منفردة؟ وإدراكاً منها لهذه الحقيقة التاريخية، وهذه الخصوصية اليمنية، شرعت بإنشاء تحالفات سياسية، وحتّى فكرية، مع الكلّ، كما سلف ذكره.
ومن هذه الإطلالة العابرة على تجارب التاريخ اليمني الحديث -وإن كانت إطلالة على عجالة- يمكن أن نستشرف ونستشفّ ملامح الوضع السياسي، في الحاضر والمستقبل اليمنيّين، وهذا ما أودّ أن تتنبّه له النخب السياسية والثورية الجنوبية، وبالذات التي تراهن على حصان أعرج خاسر اسمه "اللعب على تناقضات وخلافات القوى في الشمال، وتلاشيها من المسرح". فحكومة عبدربه منصور هادي، ومن خلفها المملكة العربية السعودية وحزب "الإصلاح"، وكذلك علي عبدالله صالح وحركة الحوثيّين، جميهم يعرفون أن ليس بمقدور أحدهم منفرداً الحكم دون الآخر، ولا إقصاؤه وشطبه من الخارطة السياسية شطباً تامّاً، وما يدور ليس أكثر من محاولة إضعاف الآخر للظفر منه بمكاسب سياسية، والكلّ، في قرارة أنفسهم، يعرفون أنّه، وبصرف النظر عمّا سيؤول إليه الوضع العسكري والسياسي، فإن التقاسم والشراكة السياسية (وغير السياسية) هي الحلّ في نهاية المطاف لحكم صنعاء، وما يمكن أن تطاله أياديهم بالحكم من مرّان إلى منتجع معاشيق في عدن، إن ظلّ الجنوبيّون يلاحقون سراباً في صحراء الأوهام، ويجهلون خصوصية هذا الشمال المعقّد التركيبة، كمجتمع قبليّ تقليديّ، (قبل أن يكون دولة وكياناً سياسيّاً بمفهوم الدولة العصرية) محكوم بعُقد قبلية، وأرباق دينية مشدودة إلى الأذقان، لا فكاك لهم منها في المدى المنظور.