التصادمات العنيفة التي عرفها الشرق الأوسط مع «الإسلام السياسي» من خلال المسيرة الطويلة المقرونة بالعنف في مصر أولاً ثم عدة بلدان عربية كانت الجزائر واحدة من محطاتها في مطالع التسعينيات الميلادية من القرن المنصرم، وإذا كان «الإسلام السياسي» وجد الفرصة في العام 2011م مع ما يطلق عليه (الربيع العربي) فإن كل الحصيلة التاريخية لهذا الفعل لم يجد قدرةً حقيقية لتكييف منهجه السياسي لفشل ذريع في التجربة المصرية إضافة إلى التورط الكبير في أحداث العنف عبر دول كالعراق وسوريا واليمن وليبيا والسودان وغيرها من دول حاول فيها «الإسلام السياسي» أن يكون مُشرعاً للسلطة قابضاً عليها.
اصطدم «الإسلام السياسي» بالمجتمع قبل أن يصطدم بخصومه التقليديين في السياسة، وهذا الاصطدام كان منذ فشل التجربتين في مصر وتونس تحديداً مثار أفكار متداولة حول قدرة هذا التيار على استبدال الخطاب السياسي والتناغم مع ما تطلبه المرحلة من مقتضيات، فالخسائر الفادحة أصابت هذا التيار بشكل كبير، وأصبح في موقف الإتهامات من قبل كوادره المصابة بالفاجعة نتيجة المحصلة من التجربة الفاشلة، فاستدعاء مفهوم الشورى من خلال الثقافة الإسلامية ظلّ, وسيبقى مفهوماً راسخاً في الديمقراطية بموجب أدبيات الإسلام وهو ما يعطي ما تبقى لهذا التيار من روح للمحاولة بعودة جديدة وفق خطاب جديد.
تابعنا بكثير اندهاش حديث راشد الغنوشي رئيس حزب النهضة التونسي لصحيفة لوموند الفرنسية مع انطلاق المؤتمر العاشر لحزب النهضة، وكان مهماً حديثه بفصل الإسلام السياسي عن الإسلام الدعوي، وهذا يقودنا مباشرةً إلى ما يشاع حول مراجعات قائمة بين رموز «الإسلام السياسي» تحاول الخروج من المأزق الذي تعيشه مختلف التيارات الإسلامية الناشطة سياسياً، وخاصة بعد ثورة 30 يونيو 2013م في مصر، لكن هل هذه المراجعة التي تخرج من على لسان أكبر مفكري «الإسلام السياسي» هي جادة أم أنها مجرد تفكير بصوت مرتفع؟؟.
لطالما قرن الإسلاميون بين أن الإسلام هو جزء لا يتجزأ من السياسة، وأن الثوابت الإسلامية تنص بحسب أدبيات ذلك التيار أنه لا يجوز قطعاً الفصل بين الدين والسياسة، ومع تصريحات الغنوشي نبدو أننا فعلياً أمام مراجعة تتبلور في ذهنية الرموز الفكرية للتيار الإسلامي، فالفصل بين الدعوة والسياسة هو بالتأكيد نقض كامل للفكرة الأساسية التي يقوم عليها كل «الإسلام السياسي».
الحديث عن فصل السياسة عن الدعوة يحتاج تشكيل وعي وصياغة مواقف وتجربة سلوكية معينة تجاه مسار واضح المعالم يمكن من بعده تأكيد هذا الحديث داخل التيار الإسلامي قبل أن يخرج للإعلام، فهل استبق الغنوشي الجميع بالقفز خطوات نحو الأمام؟؟، أم أنه ألقى أمام الإسلاميين (بالون) اختبار لإمكانية القبول بما ترفضه منطلقاتهم بفصل السياسة عن الدعوة؟؟، وتبقى الأسئلة مفتوحة بين إجابات المعنيين أولاً بـ»الإسلام السياسي».
في المقابل كيف يمكن أن يخضع أنصار «الإسلام السياسي» لفكرة فك الارتباط بين السلطة والمال، فلطالما اعتمد هذا الفريق على خطاب متلازم واضع نُصب عينيه خصومه كأهداف أولية يجب تنحيتهم عن طريق السلطة وعبر تجيير الخطاب الديني لمصلحة الحزب أو الإطار السياسي الذي يحاول استثمار الفرص السانحة لتحقيق مكاسب وإن كانت آنية كمواسم الانتخابات البرلمانية مثلاً أو الكوارث الطبيعية التي تصيب الناس مما يشجع أنصار «الإسلام السياسي» على بذل كل الخدمات ليس من أجل الناس بل من أجل مكتسبات سياسية فقط.
المعضلة الأساسية تبقى في أن أصحاب «الإسلام السياسي» لا يؤمنون إطلاقاً بمفهوم التعايش مع الآخر، سعيهم للاستئثار بالحكم، وبذلهم كل جهد ممكن من أجل الحصول على الأموال، واحتكار الأعمال الخيرية، وغيرها هي مجرد إشارات لا يمكنها التعايش تحت مظلة الديمقراطية، توزيع الشعارات وحتى بالتفكير المرتفع على وسائل الإعلام هي فقط تسويق لأفكارهم المشوشة بعد انسداد المداخل نحو المشاركة السياسية التي ابتدعوا من أجل الاستحواذ عليها انشطار «الإسلام السياسي» لعلهم يجدون مدخلاً ممكناً.