قراءة في سبب ضلال قوم نوح
وتكررها في الأقوام من بعده
بل بقي معظمها في أكثر المسامين.
- سبب ضلال قوم نوح–
سبب ضلال قوم نوح عليه السلام ذكره نوح نفسه = العصبية
({ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)} [الأعراف: 59 - 64]
التدبر:
السبب الذي ذكره قوم نوح غير السبب الذي ذكره نوح!والناس إلى اليوم يصدقون ما قاله قوم نوح من أسباب كاذبة أو خاطئة على الأقل، ولا ينتبهون لما قاله نوح من أسباب صحيحة!
التفصيل:
1- الضلال المبين : الذي يراه قوم نوح في نوح ليس سبب كفرهم لأسباب:
أولاً:
هذا الضلال عندهم ليس ضلالاً عند الله، لكنه ضلال بمعاييرهم ومقاييسهم، لأنهم يرون نوحاً لا يعود إلى ما ألفوا عليه آباءهم ( العادات = الطاغوت= القوانين العامة)، فالذي لا يرجع إلى قانون القبيلة أو الجماعة فهو في نظرها ( ضال) ولكن هل هذا صحيح؟ وما المعيار؟ .. يرفضون المناقشة.. ويردون بالعداوة والبغضاء..
ثانياً:
كانوا كاذبين في دعواهم أن الضلال المبين الذي يرونه في نوح كان سبب امتناعهم عن اتباعه، فالسبب الحقيقي كشفه نوح نفسه، وهو عجبهم من نزول الذكر على ( رجل منهم)
إذاً فسبب كفرهم أن هذا الذكر نزل على (رجل) منهم = أي حسد وكبر= لأن النبوة خصيصة وميزة كبيرة، إذ كيف – بنظرهم- يتصل الله بهذا ( الرجل) ويعطيه ( النبوة) دونهم، وهنا ترون أن نفس إبليس قد حضرت هنا ( أنا خير منه) فهي تحضر في إشكال وحجج عدة، فالكبر هو الذي يمنع من اتباع هذا النبي لأنه ( بشر = رجل منهم) ، لماذا؟
لأنهم يختارون أحد أمرين:
الأول: أن يبعث الله رجلاً بعد موافقتهم أو اختيارهم بحيث يكون الله عز وجل تابعاً لقوانينهم ولا يتبعون قوانينه ، وهذا كبر عظيم، لكنهم لا يشعرون بهذا ...
الثاني: أن يرسل الله أحد الملائكة فهذا أسهل على نفوسهم من بعث رجل منهم، لأن بعث الملاك يشبع كبرهم وغرورهم ولا يجعلهم أذلاء باتباع ( رجل منهم)!
وهنا يجهلون الأمر الذي جعل الله يختار رسولاً من البشر للبشر، وليس ملكاً، السبب حتى يتم التمحيص ( ابتلاء الله) و هو سنته في خلقه، فيؤمن من جاهد نفسه وفعّل النعم ويهلك من أهمل ذلك وتلبس بالكبر والعصبية والحسد.
فإرسال رسول من البشر مقصد إلهي لاختبار الناس، حتى لا يهتدون إجباراً , كلا/ يريد الله منهم أن يعملوا الصراع في داخلهم، بين نوازع الخير ونوازع الشر، ويريد أن يرى ماذا سيعلمون في ما منحهم من النعم ( السمع والبصر والألباب والأفئدة)، ({ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [المائدة: 48]
فماذا آتاهم؟
الناس لا يتذكرون أن الله آتاهم ( الحس والقلوب والعقول) وهي أساس ما آتاهم الله الناس، فيصرفهم الشيطان إلى ما آتاهم لاحقاً من إبل وبقر وغنم وصحة وبيوت وغيرها من النعم الثانوية، ينسون النعم الكبرى الأساسية موضع الابتلاء الأول، ولا يطرأ على عقولهم قلوبهم إلا ما آتاهم من أموال وأولاد، فيظنون أن الابتلاء فيها فقط= هذا إن تذكروا الابتلاء!
إذاً فقوم نوح عليه السلام كغيرهم يستغربون كيف يختار الله بشراً دون بشر؟ أو لماذا لا يرسل ما يجبر الناس على الإيمان كالملائكة، ولكن مقاييسهم هنا غير مقاييس الله، فالله غني عن العالمين، ولا يريد جمع الناس كما يجمع الراعي أغنامه، يريد تمحيصهم، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، فليس لهم حق مشاركته في اختيار الرسول، بل له الاختيار التام والحكمة الدقيقة التي يسهل بها عليهم الاختيار، وبالتالي يستطيعون الكفر والتكذيب باختيار تام، وأخيراً تتحقق سنة الله في ( التمييز بين الخبيث والطيب)، هذه هي سنته فلا تنسوها، وستأتي بقية مما نعرفه من غايات الله - لاحقاً-
والخلاصة هنا:
أن الابتلاء بالنبوة في البشر هي سنة إلهية أيضاً، وأنها سبب هداية الناس وكفرهم، فالمهتدون يكونون قد نجحوا في ترويض أنفسهم بالتواضع والتسليم لله والخضوع له، وهذا شرط في الاستخلاف الإلهي...
كما أن كفر الناس بسبب النبوة أيضاً، لأن كبر الناس عن اتباع ( رجل منهم) هو سبب كفر كل أقوام الأنبياء.. كما قال الله تعالى ({وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)} [الإسراء: 94، 95]..
فالنبوة إذا أعطاها الله لأحد الملائكة وجاءهم بنور يبهر العقول ويسلب الحواس ويختلب الأفئدة فمعنى هذا أن هذا المشروع الجديد لله أي (الإنسان) لا يختلف عن (الملائكة) فيصبح مشروعاً مكرراً، فالملائكة يبهرهم ما يرونه من آيات الله فلا يراكمون المعرفة، ولا يفعلونها في عالمهم، ولا يكون لهم اختيار ملموس في الإيمان والكفر، وغاية ما يكون اختيارهم هو ( كتمان أمر يتمنونه)..
إذاً فإرسال أحد الملائكة، صحيح أنهم سيجعلهم ( مسلمين طوعاً أو كرهاً) لكن سيبطل سنة الله في ( الابتلاء والتمحيص لاختيار هذا الانسان وحريته)، فالإنسان كما قلنا: مشروع جديد لله، وله أسجد ملائكته وبسببه لعن إبليس، وقصة هذا الإنسان لم تنتهِ بعد، فليس الموضوع كما يتصور بعض الناس أو كما كانت الملائكة تتصور فذلك قال الله ( إني أعلم ما لا تعلمون) أي اتركوا الاستعجال... لا تحكموا الآن... انتظروا.
والغريب أن قوم نوح – كغيرهم ونحن مثلهم في الغالب - لا يراجعون ( قوانينهم) التي يريدون بها التدخل في اختبار الله، فربما كان الخطأ من علمهم وقانونهم هذا، وأن مراد الله تمحيصهم واختبار تفعيلهم بهذا الفرد من البشر الذي يستحق هذه المرتبة العالية (النبوة) لمقاييس تختلف عن مقاييسهم التي تتلبس غالباً بالدنيا من مال وكثرة وجاه دنيوي كاذب.
لماذا لا يستطيعون؟
الطاغوت:
لا يستطيعون التخلص من (قوانينهم وعاداتهم) لأنها تطغى على عقولهم وقلوبهم فتصبح (طاغوتاً) يريدون التحاكم إليه، بينما أتت النبوات لإبطال (هذا الطاغوت) وعبادة الله وحده الذي يقدر أن يشرع ما فيه سعادة البشرية وتحقيقها لغاية الخلق ، بعد أن عجز ( الطاغوت) ولم يسعد البشرية بل أشقاها وأدخلها في الإفساد في الأرض.
وسنرى أن (عبادة الله) لا تتم إلا بـ ( اجتناب الطاغوت) ولكن الشيطان أنسى المسلمين معنى ( الطاغوت) فظنوه ( الأصنام) – وهذا خطأ- بل هذا التقزيم في تعريف الطاغوت ، والشيطان حريص على حشر كل مشاكل البشرية في (( أحجار))، وكأن خصومة الله متلخصة في هذه الأحجار... وهذا تقزيم لما يريده الله لهذا الإنسان من غايات لا تتلخص في اجتناب السجود لأحجار، لكن الشيطان يصرف الناس عن ( معرفة الطاغوت) بمعناه الشامل ( وهو ما طغى عليك من فكر مباين لما يريده لله) حتى تبقى عبادة الطاغوت بما يتفرع عنه من عبادة السادة والكبراء والأنداد والشفعاء والشركاء والأحبار والرهبان ..الخ.
بل أصبح كثير ممن يرفع راية (عبادة الله واجتناب الطاغوت) من أتباع الطاغوت، لماذا؟
لأنهم لا يأخذون تعريف العبادة من الله وإنما من ( الطاغوت) كما لا يعرفون معنى ( الطاغوت) من الله وإنما من ( الطاغوت) فمحاربتهم للطاغوت من الطاغوت، وبهذه المحاربة يستحلون دماء المسلمين ويرتكبون كل العظائم..
أرأيتم إلى أين يطاردنا إبليس؟؟
لا يكل ولا يمل، و له جمهور من الحمقى والمغفلين يفسدون في الأرض قتلاً وتدميراً وإفساداً باسم التوحيد ومحاربة الطاغوت، والله لا يحب الفساد، ولكنهم كما ذكر الله:
( {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) } [الأعراف: 30]
قصة طويلة معقدة ، وقد تكون سهلة وبسيطة إن شاء الله مع التعلم بنية صادقة.
يتبع.
*- بقلم الشيخ حسن بن فرحان المالكي - باحث في الشؤون الشرعية والتاريخ ومهتم بقضايا حقوق الإنسان – الرياض
*- للإطلاع على الجزء التاسع الرابط التالي : اضغــــــط هنــــا