"22 مايو على رصيف المفاجآت"
٢٢ مايو عند النخب السياسية الشمالية هو نهاية التاريخ، ليس في السياق الفوكويامي المعروف، ولكن بالمفهوم البلدي الحتمي لنهاية تاريخ الجنوب شعب وحضارة ودولة، ومن هذا المنطلق توضع الحواجز الاسمنتية على "الأوتوستراد" أمام تسارع الوضع في الجنوب ولو من الناحية الدعائية عن طريق الحروب الاعلامية. ٢٢ مايو هو قاسمهم المشترك الأعظم ورمزية "المفهوم الأحادي الجانب" للوحدة اليمنية من منطلق نفعي، باعتبارها كنز استراتيجي يقوم على تعزيز هيمنة الطرف الاقوى عدداً، وتوظيف الجنوب كمصدر حيوي ومتنفس طبيعي خارج إرادته وخياراته.
وبغض النظر عن زوال الوحدة من الناحية العملية، فإن اليأس لم يصب تلك النخب في مخاطبة الخارج وتحذيره من استعادة دولة الجنوب، وفي إستثارة الفحولة القومية والإسلامية الاصولية عند بعض العرب من خلال تصدير المسميات المرعبة ك"تقسيم اليمن أو تشظي اليمن" وغيرها. تلك طبيعة متأصلة لمفاهيم الحق والمصالح عندهم وتسويقها "مقرطسة" بالشعارات الدينية والوطنية، ولديهم مواهب متميزة في التملُّك ومصادرة وجود الآخر، وتجريده من أرضه ومن سماه.
جنوباً بالرغم من الحق المبين والأرضية المهيأة لاستعادته كاملاً، إلا أن هناك شحة في الإبداع السياسي، تعمقه النخب في عدم تضامنها الشامل وعدم تغليب مفهوم استعادة دولة الجنوب على أي خلافات حول الآليات والوسائل. وما تزال بعض الشقوق داخل النسيج النخبوي بائنة، فنجد من يفضل ولاءاته الحزبية، أو من يحمل شيئاً من الماضي أنتج في اللاوعي فوبيا دولة الجنوب، لتضغط على طريقة تفكيره ومواقفه، وهناك من القادة من يتمسك بمفردته البابوية ودوره المركزي ومشروعيته التاريخية كأنه يقول: يا قوم من يريد الاستقلال يصطف ورائي. كل تلك الأعراض تطفو على سطح الغياب المدوي للمؤسسة السياسية الوطنية المؤهلة لقيادة وتمثيل الجنوب في الداخل والخارج، والتي بوجودها يستطيع الجنوب أن يقترب من ثقة العالم وتأييده لإستعادة الدولة.
الجنوبيون غارقون في الشعار ونشيد التحرير والاستقلال، دون أن يفهموا كيف السبيل الأمثل إلى ذلك، وماهي طبيعة المواجهة السياسية لخلق قناعات خارجية فورية بالضرورات التي تؤيد قيام الدولة الجنوبية الحديثة... غارقون ولا حيلة لهم لاستنهاض الحامل السياسي الحقيقي حتى بخدعة مزمار الحاوي الذي باستطاعته أن يُخرج الكوبرا الراقصة من سلتها.
هناك نشاط في الميديا وشبكات التواصل، وحملات إعلامية وتحليلات وتوقعات تقارب بين الأمل والوهم، لكن دون حراك سياسي منظم، وهذا أمر لا يبشر بأي إنجاز حقيقي على الصعيد العملي، بمعنى أن خلاصة الاداء السياسي الجنوبي ما يزال يساوي "سوبر زيرو" في زمن توفرت فيه كثير من الشروط الموضوعية.
القادة الكبار لم يغير فيهم الزمن الا بمقاس درجة زئبقية في الترمومتر السياسي.. وأداؤهم البدائي يذكرنا بعزف "عبد السميع اللميع" في مسرحية أستاذ مزيكا… على أنغام بلاي باك آتية من زمن ندرة الخيال السياسي وروائح الخطاب المعفر بغبار الماضي، في مشهد يُرسَم فيه الجنوب مزدحماً بعاطفة الانتظار، لوقع اقدام تأتي من الفضاء اللا أرضي وتحمل له دولة جاهزة فاقع لونها تستقبلها الجماهير بإيقاع الفرقة النحاسية الصاخبة وطبول الفرح.
أقول قولي هذا مؤكداً بأنه على الجنوب أن يقف أمام المرآة الآن، لا لأن يردد مع الفنان "عبد الباسط حمودة" أغنية "أنا مش عارفني"، ولكن ليقرأ نواقصه بشفافية ويحاول أن يفهم ماذا عليه أن يفعل ليستكمل المشوار الذي دشّنته دماء الشهداء، وهذا أمر لو تعلمون خارج الأوهام والحبكات الدرامية، ولا يعتمد على مصائب قوم.
٢٢مايو مناسبة مؤلمة لا يحبها الجنوبيون، ويسعون إلى وضع نهاية سريعة لتداعياتها الطويلة والمدمرة من خلال استعادة دولتهم، وهذه لا تأتي إلى رصيف المفاجآت مهداة من الخارج أو بنفخ مايكروفوني يصم السامعين، وإنما تأتي بالنضال السياسي الواعي والشاق والموحد لإستكمال ما تم إنجازه على الأرض بالدماء والتضحيات، وتحويل الأهداف إلى واقع حقيقي يتقبله العالم.
إن أوضح جملة يجب أن تقال في مناسبة ثقيلة الدم كمايو هي: أن الدولة الجنوبية لا تُستعاد عن طريق المفاجآت أو خيال الراوي وإنما بوسائل قوية ومنظمة وواعية وتضامن شامل وعودة الشتات إلى عدن وتحمّل الجميع قدراً من المشقات والمخاطر والتعب والعرق في سبيل الجنوب.