بعد انقضاء يوم التصالح والتسامح الذي اتمنى أن يأخذ ابعادا أكثر جذرية ورحابة في العام المقبل، اتقدم من الأصدقاء والصديقات ممن استشهد آباؤهم في أحداث يناير 86 أو في أحداث سابقة عليها أو لاحقة، في الشمال كما في الجنوب، أو تعرض آباؤهم وأحبتهم للإخفاء القسري، بأصدق مشاعر التعاطف والاحترام لمعاناتهم وصبرهم الجميل وكظمهم\هن الغيظ، راجيا أن تحتل قضايا هؤلاء الأولوية في أية فعاليات مقبلة حراكية أو غير حراكية، مع التقدير لكل أسرة شهيد أو مختفي قسريا قررت طي الصفحة من أجل التصالح والتسامح.
لقد تابعت هنا، وفي مواقع عديدة أخرى، خلال الأيام الماضية بعض ما نشره أبناء (وبنات) الشهداء والمختفين قسريا, وآثرت السكوت حتى تنقضي هذه الفعالية المهمة والدالة في عدن آملا_ كما كتبت قبل يومين_ أن يحظى الشهداء والمختفون قسريا بالتفاتة من منظمي فعالية التصالح والتسامح. لكن أملي خاب للمرة الخامسة على التوالي؛ فالتصالح والتسامح ما يزالان على عهدهما: أداة احتشاد أكثر من كونهما قيمة ومنهج حياة.
لقد تفجر ينبوع الدم في الجنوب (داخل الجبهة القومية) ساعة تقرر تدبير مؤامرة لقتل فيصل عبداللطيف الشعبي مؤسس حركة القوميين العرب في اليمن ورجل الاستقلال الأول، والشخصية القيادية الفذة والفريدة في التاريخ اليمني الحديث.
بعد انقلاب 22 يونيو 1969 تم اعتقال فيصل عبداللطيف، الرجل الأول في الحركة والجبهة والرجل الثاني في الدولة. بعد أشهر قرر الممسكون بالحكم اللحاق به إلى زنزانته وتصفيته وفبركة قصة غبية عن مصرعه أثناء محاولته الهرب من المعتقل. قتلوا أجمل ما في الجنوب وأروع من فيه، وذهبوا إلى الحد الأقصى في التجرؤ على المحرمات، فصار كل شيء بعده هينا!
كذلك استشهد بعد 9سنوات الرئيس سالم ربيع علي (1978)، وبعد 8 سنوات وقعت الواقعة التي حصدت أرواح نخبة من القادة السياسيين والمبدعين والمثقفين والشباب وأودت بالآلاف من الأبرياء علاوة على الجريمة المستمرة مذّاك جراء إخفاء المئات قسريا وبينهم قيادات حزبية ومدنية بارزة.
غاب فيصل عبداللطيف وسالمين وفتاح وعلي عنتر وفاروق علي احمد وهادي أحمد ناصر ومحمد ناجي سعيد... غاب كل الذين ننتظرهم, اصدقاؤنا المختفون قسريا، وحضر، بكل صفاقة، كل المعمرين الذين يذكرونا بهم.
اعرف أن التطرق إلى مواضيع كهذه يشوش على صناعة الإجماع المزدهرة في الجنوب حاليا. لكن هل يكون "تصالح وتسامح" إذا رفعنا صور الزعماء الذين ينفرون من كتابة مذكراتهم كما يفعل مجايلوهم في البلدان المتحضرة وغير المتحضرة؟ إذا تعامينا عن الضحايا وتعالينا على مطالب أسرهم وجعلنا من مجرد استذكارهم تابو ثوري جديد؟ هل نعلي حقا من قيمتي التصالح والتسامح إذا نحن قمعنا روح النصرة والتعاطف والتضامن داخلنا كي لا نستفز القتلة!
*- سامي غالب – كاتب وناشر صحيفة النداء