رحلة في عقل أديب وناقد حضرميّ (د. طه حسين الحضرميّ) ‘‘الحلقة الثالثة‘‘
*- بقلم علي سالمين العوبثاني
*بوصفك شاهد حال على كتابين لأبرز كتابنا الأجلاء وهما : الروائي القاص الأستاذ صالح باعامر ، والسردي الدكتور عبدالله الجعيدي اللذين أحتلت مدينة " المكلا " مكاناً كبيراً في عملين لهما: رواية " المكلا " للأول و" أوراق مكلاوية " للثاني ، كيف ترى هذه العلاقة الحميمية التي جعلت من هذه المدينة الساحرة هاجس حب عميق لدى الكتاب والشعراء وغيرهم ؟
أخي علي دعني هاهنا أن أكون شاعريا وجدانيا بعيدا عن الموضوعية.فالحديث عن مدينتي الحبيبة (المكلا) تكتنفه المشاعر والأحاسيس، فلا يخضع للموضوعية على الإطلاق –هذا فيما يتعلق بشخصي- فهو حديث في معظمه الغالب لا يخضع للمعايير (الطبوغرافية) أي من خلال المقومات المكانية لمدينة ما، المستندة على عمليتي التخطيط والتصميم. ولا لمعايير (التاريخ الحضري) المرتكزة على عنصر الزمانية وتمدده.
وإنما هو حديث الواله العاشق تجاه مدينة تختزل كل المدائن –من وجهة نظره- في أناسها و جبلها وبيوتها وبحرها وشوارعها؛ بوصفها أشرعة حب تنفتح على كل المنافذ العاطفية والطبيعية.
فالحديث عن المكلا حديث ذو شجون لا حدودَ نصيَّةً وصفيَّةً له مكانياً، ولا حدودَ سرديةً إيقاعيّةً له زمانيًا.وإنما تخضع حدوده لإيقاع ذاتي ذي ذبذبات وجدانية. فهي في نظري كيان من الإبداع تنساح في ساحاته الاستعارات والكنايات. ويفوح شذى عطرها عبر آفاق الهوى والجمال. خاض في غمار عشقها أفذاذ الأدباء والمفكرين.وتلفّح مساحات الود فيها أدباء أوغلوا في نسائم بحرها الزمردي ولاذوا بسحائب طودها الأشم. فهي مدينة تهوى الأدباء وتثقب حبات لآلئها من أجلهم لإضاءة عيون أشعارهم وسردهم.وهي متأبية على الاحتواء فتتسع ساحاتها لنفثات خواطرهم ولواعج وجدانهم.بيد أنها تصرعهم في هواها في غفلة عن أعين العاذلين.ألهذا تراها مدينة عصية على التعريف والتصنيف؟
ربما.
فهي تحلّق خارج الزمان والمكان.
فها هو الشاعر المبدع خالد عبدالعزيز صاحب القصيدة المغنّاة (بعد المكلا شاق) الخالدة في وجدان كل أبناء المكلا –إن لم أقل كل أبناء حضرموت- الذي جعل الأحرف تتوهج في متون ديوانه (المكلا). و ها هو الشاعر الدكتور عبدالعزيز الصيغ يترجم هذه العلاقة بين الإنسان والمكان في غير قصيدة ولاسيما قصيدته البديعة (المكلا) التي مطلعها:
هذي المكلا وهذا البحر والجبل الشاهدان على أنّي بها تَبِلُ
أما القاص والروائي المبدع صالح باعامر فقد أشعل الشوق في أحرف السرد في روايته (المكلا) وفي أغلب قصصه القصيرة. و في هذا الإطار لم يكن الأديب الدكتور عبدالله الجعيدي بدعا في هذا الأمر حين ترجم هذه المحبة إلى أحرف مضيئة في كتابيه (أوراق مكلاوية) و(عابر سبيل)؛ فهو من أبناء المكلا الأفذاذ الذين ذابوا عشقا في أعطاف عروس بحر العرب، ممن يمضون في خطا سلفهم من المبدعين المحبين لهذه المدينة الساحرة.
قد يتساءل متسائل فيقول: لماذا هذا الاحتفاء المبالغ فيه بمدينة مثل المكلا. أليست هي مثل بقية المدائن إن لم تكن أقل شأنا منها؟ ما المميز فيها؟ أفي سكانها أم في مكانها؟ أفي جبلها أم في بحرها؟ أفي مناخها أم في شمسها؟
التساؤل في جوهره مشروع، بيد أنه غير مستساغ؛ لأن الأمكنة – كما أسلفنا - لها مقياس يرتكز على العواطف والمشاعر لا بالجغرافيا ولا بالمناخ. وما صاحب منطقة (القيمة) بأرض حجر الذي بات صراخه (آه يا القيمة) في أعماق بلاد الهند يقض مضجع زوجه الهندية وجيرانه سنوات طوالا إلا أنموذجا مثاليا لهذا التعلق بالأمكنة.
وفي هذا المقام دعني استدعي خاطرة كتبتها عن مدينتي الغالية بعنوان (سياجها أقحـوان. شذرات مكلاوية) قبل سنوات عدة وكنت على نية أن أكتب شذرات مكانية في هيئة (أقحوانات) تشكّل سياجا عاطفيا يحيط بهذه المدينة البهية. نُشرت الشذرتان الأولى والثانية منها في مجلة (المكلا) وها أنذا أعيد نشرهما حتى تتسق مع سؤالك السابق الذي أثار شجنا في نفسي أيَّما شجن.
1- أقحوانة تنبت على صخرة
على مرمى من النظر من أعماق البحر أومن قمة الجبل تنبثق حصاة ستين مشكّلة حضن التقاء بين البحر والجبل، ترنو بعطف على أفقها مبحرة في فضاء المكان متلونة مع سيف حميد متسقة مع قبة السماء لتتلألأ مع مآذن الغالبي وعلى حبيب والجامع، السكون يحتويها والوقار يمتطيها، و النوارس تتوسدها بين حين وآخر، كنت في مقتبل العمر استشرفها دائما، أدور في فلكها أبعثر نظري في أنحائها، أختبر صلابتها، يا ويلاه هاهنا الآن أرى الفراغ يحتويها عجزت المياه زمانا من تفتيت قواعدها فسحقها الإنسان سحقا ليحل الإسفلت الأسود موضعها الحبيب.
هاهنا أحتضن ذكرى لحيظات مضت، يبحر التمني فيها نحو الماضي، متفلتاً من قيود الأزمنة، محتضناً هوى الأمكنة، فإذا كان الزمان تستنشقه الذكريات، فإن المكان يتقوقع في ركن قصيٍّ من جماجمنا، ما زلت أرنو إلى الفضاء حيث كانت الصخرة ترسو بأحلامها وآمالها، على سفحها أو قريب منه ظهرت بلقيس في أبهى صورها وفي أحسن زينتها، كانت تتراقص أمام مخيلتي على سطح البحر البلوري، منشدة أجمل القصائد، التي شرعت بتسطير متونها على حواشي الشاطئ الذهبي، فقد كانت بلقيس في لحظة حب، وفي هذا المكان كان يستقر متألقاً عرشها .
( ثمة ملاحظة لابد من وضعها في هذا السياق قرائي الأعزاء وهي أن قصص قصيرة للكاتب نُشرت في ثمانينيات القرن الماضي تحمل العناوين التالية :
[(بلقيس مسكينة) و(بلقيس في لحظة حب) و(عرش بلقيس) و(سطور على حواشي الشاطىء)].
وبعد وقفة التذكير تلك نترك الدكتور طه حسين الحضرمي يسترسل في حديث الشجن .. حيث يقول :
هاهنا أريقت دموع الألم، وهاهنا أبحرت قطرات الأمل، " أين من عينيّ هاتيك المجالي يا عروس البحر، يا حلم الخيال " ها هو (الفرش) يفتح ذراعيه للقوارب الآيبة من رحلة العناء والبهاء، متزامنة مع رحيل (الغزالة). هاهنا سياج متين من الود والألفة بين الإنسان ومكونات الطبيعة، يرفدها عشق أزلي يمتطي قوارب الأحلام.
هاهنا انتفضت الروح لتحاور البحر والموج الصاخب بهمس تعجز الآذان عن استراقه، لتمتطيه عصافير الأشجان في رحلة طويلة تمتد أجيالا وأجيالا، هاهنا أزهرت رياحين الأفراح وزقزقت أوراق الأقحوان، هاهنا وهاهنا.
2- أقحوانة تتشكّل في حوار تجريدي
- تُرى لماذا قال الشاعر" بعد المكلا شاق " أليست المكلا مثل بقية المدائن ؟
- هذا حديث لا يفقه أسراره إلا مَن اكتوى بلوعة حب المكان.
- وهل المكان في المكلا يتميّز عن الأمكنة في بقية العالَم ؟!
- وهذا سرّ آخر يجهله مَن تساوت في عينيه جميلات العالَم.
- أتراك مبالغا في حب مدينتك ؟
- وهذا سر آخر يغيب عمّن فقد هُويته المكانية.
- ما الذي يميّز مدينتك إذن ؟!
- بحرها وجبلها وهواؤها وناسها.
- أو ليس البحر والجبل والهواء والناس في غير مدينة ؟!
- بلى ، ولكن بحر المكلا رحب الصدر، ألا تراه يعانق المحيط من جهة، ويغازل الجبل من جهة أخرى، ويحتضن المدينة من جهات عدة، أما جبل المكلا فأب حنون على المدينة وعاشق مدله بالبحر، فهما عاشقان يتصافحان عبر (الشمال) صيفا ومن خلال (الزيب) شتاء، وعبر الهواء الذي يتنفسانه ليلا ونهارا، وفي أثناء ذلك يحتضنان ثمرة عشقهما (المكلا) بحبِّ أبدي.
- هذا حديث لا أفقه منه شيئا.
- ها هنا يكمن السرّ الخفي، فارجعِ البصرَ كرتين، تجدْ نفسك مصابا بعمى الألوان، ومبتلٍيا بتشابه الألحان، فابحث لمخيلتك عن مكان تناجيه حين الاغتراب، و تأنس إليه عند الوحشة.))
فماذا أحدّث عن (المكلا) بعدُ يا عزيزي مليحة عاشقاها البحر والجبل .
في الحلقة الرابعة القادمة نواصل حديثنا مع الدكتور طه حسين الحضرمي .. والحديث معه ذو شجون ..
انتظروني قرائي الكرام .. نلتقي بمشيئة الله تعالى .
للإطلاع على الحلقة الثانية : أضغــــــط هنـــا