سيكون ضرب من التخييل الدرامي العميق لتصوير الكارثة والخديعة، لو افترض أحد أن العقيد القذافي أطلَّ من فضاء قريب على ليبيا ليرى مدن الدخان وجماعات تقاتل جماعات، ويرى مليشيات بأسماء مختلفة، وطائرات تضرب، وسكاكين تجز الرؤوس، وأجزاء وطن تتبعثر كحبّات مسبحة قديمة، حينها ستخرج منه، مرة أخرى، تلك الكلمات اليائسة التي قالها ذات ليلة والارض، وبشكل غير متوقع، تهتز من تحت أقدامه بعد أن ظن أنها راسخة مؤبدة.. من أنتم ؟.
لكن هذه المرة ستطلع "من أنتم" بنبرات مسربلة بالدهشة والحسرة والألم معاً.
من أنتم؟ لقد قلتم أنكم ثوار الربيع تغيرون الأنظمة المتهالكة وتبنون دولاً مدنية ديمقراطية يسودها السلام والحرية لتذهب على طريق الحداثة والتحولات الحضارية، وساندكم بعض العرب والناتو، وأخفوا وأخفيتم معاً ضحايا طائراتهم ودمارها.. فمن أنتم الآن ، ثوار أم مجرد بيادق في مهام قتالية فوضوية؟؟؟
نعم كان القذافي دكتاتوراً وله سياسات متهوره، وكان من حق الشعب الليبي أن ينقضّ على سلطانه ويغيره بإرادته، وليس غريباً أن تتحرك الشعوب ضد حكامها الطغاة.
ذلك أمر لا جدال حوله، لكن الجدل اليوم يرتكز على محور رئيس ومفصلي وهو؛ كيف فكرت دول الناتو ومعهم دول العرب حين أسقطت طائراتهم الدولة الليبية كاملة ولم تبقِ على شيء غير مليشيات مدعومة من خلف البحار؟ ولماذا تركت ليبيا يتيمة عارية بائسة مفلسة ؟
ألم يدرك العرب أنهم، جميعاً دون استثناء، محكومون بدكتاتوريات شاخت أدواتها وتكلست شرايينها التي لم تعد تضخ غير الدخان والغبار واليأس؟ ألم يكن معمر القذافي مجرد أحد الرموز لمرحلة من الضياع العربي الذي جسده كل الحكام ؟. كل شيء هيّن على العقل سيتقبله في هذا الزمان الأغبر لكن ما ليس بهيّن هو أن تدّعي أنظمة دكتاتورية بابوية فاسده بأنها ذهبت لمناصرة شعوب شقيقة من أجل تحريرها من أنظمتها الدكتاتورية ( برضة) !!!
تلك ثنائية متناقضة تبين الواقع العربي المضطرب وكيف ركبت بعض الأنظمة ومعها الغرب موجة الربيع وغيرت مساراته ووجهته نحو اهدافها حتى انفلت الزمام من يدها وعادت مرتبكة امام مشهد التدمير الذاتي للأوطان والجيوش.
لم يعد عاقل في المنطقة قادر على استيعاب المآلات الكارثية لنتائج الحمّى الدموية التي بثت روح العنف والمغامرة،
ولم يعد أحد يعلم إن كان التحالف الدولي الجديد سيطفئ الحرائق أم سيزيدها وقوداً واتساعا.
من أنتم جميعاً ؟ المتطرفون والجيوش والطائرات ومن سيأتي من دول التحالف؟ من أنتم في كل مكان في ليبيا وسوريا والعراق واليمن، ومن ستقتلون ولأجل ماذا؟
ربما قال العقيد القذافي الذي قُتِلَ بطريقة همجية لا تمت للثورية بشيء، من أنتم، في لحظة انهيار ورفْض استيعاب الواقع، وبسيكلوجيا الإنكار الإستعلائي لما تدركه عيناه، قال ذلك قبل وقت قصير من النهاية التي رأى أنها آتية، وعقله الباطني كان يخزن مقاربةً مختلفة تماماً، حيث تبدّى له أن الجماهير التي صفقت لمحيّاه حيناً من الدهر ربما ستأتي من خلف أفق ما، أو ستصعد من تحت الثرى لتسوّي الطريق أمامه كي ينتصر ويبقى، لكنه رحل بطريقة مُذلَّة.
حسناً لم يدرك حينها لكن اليوم كل ليبيا لم تعد تدرك شيء، فهي مزدحمة بالموت والدمار والأنقاض والارهاب والطائرات وأمور كثيرة أخرى ما تزال في الطريق الى المشهد الذي لم يره القذافي، وربما لم يتوقعه كل من أتى بطائرات الناتو حينها ويسعى اليوم لاستجلابها مرة ثانية، لتصل الحكاية الى عقدتها السريالية، كي يسأل الناس بعضهم بعضاً.. من أنتم ؟؟؟؟
احمد عبد اللاه