يتجلى البحر في الرواية، فضاءً، أو رمزاً، أو ثيمةً، أو صورةً روائية، على تفاوت واختلاف وتمايز في التوظيف، بين نص وآخر، بحيث أصبح أو كاد يكون لكل نص روائي "بحره الخاص", في سياق تطور التجربة السردية الحديثة لدى كتّاب الرواية الذين تمكّن البحر بفضلهم من أن يصبح موضوعاً أدبياً، كما يشير الناقد سيمون لييس، وارتبطت أسماء عديد من الكتاب وأعمالهم الروائية، بشكل ما، بالبحر، وعوالمه المدهشة، والعجائبية، ومجاهيله، ومغامراته، ومقامراته، أمثال فيكتور هيغو في "عمّال البحر"، وأرنست هيمنغواي في "الشيخ والبحر"، وحنّا مينا في "الياطر" و"الشراع والعاصفة"، و"ثلاثية حكاية بحار"، وجبرا إبراهيم جبرا في "السفينة"، ومحمد زفزاف في "الأفعى والبحر"، وإدريس بلمليح في "رحيل البحر"، وغيرهم من الروائيين العرب والأجانب.
ولعل رواية "إنه البحر" للروائي صالح باعامر، الصادرة عن دار طوى بلندن (2013)، تضيف إلى مدونة البحر الروائية العربية، عملاً يتسم بخصوصيته المحلية، إذ يتجلى الكاتب فيه أشبه بالطالع تواً من البحر، ليفيض على المتلقي فيوضاً ذات خصوصية عالية، بما أسبغه على البحر، فضاءً سردياً للشخصيات، والأحداث، والأماكن، والأهازيج، وإيحاءاتها المدهشة.
تفيض جملة العنوان "إنه البحر" حالة من حالات التماهي بين الكاتب البحر، دلالةً وتأويلاً، فهو يمتح من معجم بحريّ موصول بأقانيم ميثولوجية شعبية موغلة في تشكيل ذاته الإبداعية، ورؤيته، ووعيه المبكر بالعالم، منذ نشأته الأولى في بلدة ساحلية حضرمية مفتوحة الفضاء اطبيعياً على بحر محيط لا يحد، حيث كانت الرحلات البحرية تتدفق من بلدات ومدن حضرموت في جنوبي الجزيرة العربية، مشرّقةً باتجاه عُمان والخليج العربي والهند وجنوب شرق آسيا، أومغرّبة باتجاه الصومال و زنجبار بشرق إفريقيا، وهو الفضاء الذي تماهى فيه باعامر، ليعيد تشكيله فنياً وجمالياً من سجلّ الذاكرة البحرية، وتفاصيلها اليومية، وصور معاناة البحارة والصيادين ومباهجهم وعلاقاتهم الإنسانية، في نصوصه السردية القصصية، مثل "دهوم المشقاصي"(1992)،وغيرها، ثم الروائية كما في ثلاثية البحر: "الصمصام"(1993)، و"المكلا" (2004)، و "إنه البحر" (2013).
رواية "إنه البحر" مكثفة، وتشغل حيزاً ورقياً لا يتعدى المائة صفحة من القطع المتوسط، لكنها ممتدة باتساع البحار والمراسي والمرافئ والبلدات والمدن التي تشكل فضاءً سردياً ممتداً، تجري أحداثه في زمن ما بعد الحرب العالمية الثانية، إبّان الوجود البريطاني في مستعمرة عدن ومحمياتها الغربية والشرقية الممتدة حتى تخوم عمان، حيث تقع بلدة الكاتب "قصيعر"، التي تبدو الرواية أشبه بالمعادل السردي لها، ولعله لذلك أهداها إليها، موحياً بأنها نقطة الانطلاق الأولى إلى البحر الذي ينفتح على بحار وبحار، وجزر وشطآن، تماماً مثلما تنفتح الحكاية فيها، تقنياً،على حكاية أخرى، وتتجاور الشخصيات الجوهرية مع الثانوية حتى لتغيب الأولى في الثانية، بأسلوب يضفي على السرد طابعاً توليدياً يعيد أجواء الحكي القديم كما هي في ألف ليلة وليلة، ولاسيما في السياق المرتبط بالميثولوجبا الحكاية الشعبية والخرافية، ملمحاً من ملامح الخصوصية المحلية، ورافداً من روافده الإبداعية الموصولة بالبحر الذي قال عنه في أحد الحوارات الأخيرة معه: "توحدت به وجدانياً وروحياً وأحببته وهجست به هجساً ابتدأ منذ الطفولة ولم لا؟، وأنا أصابحه وأماسيه كأي فرد من أبناء "قصيعر" البلدة المتوحدة به والمنغمسة فيه، متخذاً من رماله وشواطئه الناصعة بحراً أمخر فوقه بسفينتي الورقية وأبحر بها إلى موانئ ومرافئ ومدن وهمية معوضاً نفسي عن عدم عملي به والدخول إلى أعماقه على متن سفينة".
يمتح باعامر في روايته هاته، كما في أعماله السردية الأخرى من مخزون شعبي عميق، تنماز به البلدات والمدن الساحلية المتشاطئة مع بلدات ومدن مقابلة في فضاء العلاقات المفتوحة على تلاقح ثقافي، وتلك واحدة من مزايا هذا الكاتب الذي لا يفتأ ينبش في الذاكرة الفردية والجماعية ويشتغل على تسريد الحكايات الشعبية والخرافية المرتبطة برحلات وأسفار البسطاء بحثاً عن الرزق، أو الذات، أو الرغبة في اكتشاف الآخر، وعوالمه المجهولة المدهشة، بما يكتنفها من سحر وغموض في المتخيل الشعبي. غير أن مما تنماز به هذه الرواية أنها توظف، ولكن في سياق ميثولوجي، الفلكلور الشعبي من أغانٍ ونصوص شعرية يتغنى بها البحارة ويتوارثونها تعويذاتِ أسفارٍ، وتعبيراً عن لحظات الألم والأمل، وتقلبات الذوات بين اليأس والرجاء، وفق المنظور والمعتقدات الشعبية السائدة، حينئذٍ، ومن ذلك ما يرددونه في موسم (التجلوب) الذي له نمط خاص من الابتهالات الشعبية، والأدعية والتضرعات، لتيسير مسالك الحّارة، وتقريب فرَجهم، وجلب الحظ لهم، وعودتهم إلى أهلهم وأحبتهم، سالمين غانمين.
وفي سياق توظيف هذا البعد تمثل شخصيتا السعد (راقصة الزار) وحبيبها شيرون (جنّي البر والبحر) ملمحاً من ملامح امتداد المتخيل الروائي من الحكاية الشعبية إلى تخوم الحكاية الخرافية، حيث ينقل شيرون حبيبته السعد إلى فضاء الخرافة وعوالمها العجائبية، عبر رحلة متخيلة تحيل على سندباديةٍ ما، إلى عوالم الجان وجزائرهم، وما يحف بها من أحداث وغرائب، هي جزء من نسيج التكوين الشعبي والخرافي، الذي تلغى فيه حدود المكان والزمان، في حالة من حالات التضافر بين عنصري الشخصية والمكان، في الفضاء السردي الخرافي، حيث يستمد باعامر كثيراً من تفاصيل اشتغاله من الحكاية الشعبية التي هي جزء من الثقافة الشعبية المهيمنة في بيئته المحلية، ثم يعيد تشكيلها وتوظيفها في بناء متنه السردي الموغل في محليته، والمنفتح في الآن نفسه، على تقنيات الكتابة السردية الحديثة.
* بقلم : د سعيد الجريري -
*(القدس العربي)