قصة عجيبة ، وشخصية فريدة هذه السيدة ، لقد سمعت عنها كثيرا في أياماً مضت ، ولكن لم أتخيل أبداً أن مثل هذه الأميرة الشرقية في تلك الحقبة من الزمن ، ومع كل الظروف التي مرت بها أن تصمد وقتاً طويلاً .
إننا دون شك لا نستطيع أن نضيف أي شي في سيرة الأدبية العمانية التي نسرد بعضاً من قصتها الآن ، لأنها تكفلت بنفسها أن تضع حقيقة أحداثها الفريدة ، وصاغتها في أفضل ما يكون عليه أدب السيرة الذاتية أنذاك ، لم جديدا أبدا أن نكتب عنها ، وإنما جاءت هذه القطعة للذكر ليس إلا ، ونأخذ بعض هذه الأحداث المهمة من الكتاب القيم الذي ألفتة ، وهو " مذكرات أميرة عربية " ، مع إنطباعات خاصة ، وما جاء عنها في الكتب الأخرى مختلفة عن الصورة التي قدمناها في شخصية السيدة موزة السياسية ، ونعطي هنا رهف المشاعر والحنين ، ورقة الأحاسيس ، في حدود المصادر والمراجع المتوفرة .
ويبدو لنا أن السيدة سالمة قد ورثت من أمها قوة الإرادة ، وصلابة العزيمة ، ولكنها لم ترث الوداعة والطيبة ، فقد كانت في طفولتها ميالة إلى العب والانطلاق ، كثيرة النشاط ، جمة الحيوية ، عنيدة في رأيها ، مولعة بإتيان الغريب من الأعمال ، وكأنها تريد أن تثبت بروزها بين الآخرين ، وأن تجلب الأنظار ، وتشد الاهتمام إليها .
فهي تركب الخيل ، وتحمل السلاح ، وتبارز بالسيف ، وهي تصعد الأشجار العالية ، وتتعلم الكتابة سراً ، وتقوم بغير هذا وذاك من إعمال الشيطنة والشقاوة والطفولة ، ولعل طباعها هذه هي مفتاح شخصيتها التي تفسر لنا تصرفاتها في مستقبل حياتها ، والتي تكمن وراء ما تعرضت له من أحداث إنتهت بها إلى الغربة والتشرد .
وقد نشأت في هذه البيئة ، وكان لها من حماية أبيها ، ورعاية أمها ما يكبح جماح طبعها ، وعصمها عن الشطط ، ويبدو لنا من كتابها إعجابها الشديد بأبيها السلطان ، وإكبارها الشديد له ، فهي لا تنقل عنة إلا الجوانب الخيرة ، والصور الزاهية ، جاهلة أو متجاهلة الجوانب الأخرى التي يذكرها التاريخ عنة .
وهي شديدة الحب والإعزاز لامها ، حتى جاءت صورتها في هذه المذكرات مثال الطبية والخلق الحميد ، وهي بعد ذالك تخص بالمدح والثناء إثنين من أفراد عائلتها هما ، أخوها ماجد ، الذي تولى السلطنة بعد أبية (1856 – 1870) ، وأختها خولة ، وقد وصفت أخاها ماجد بأنه مثال السماحة والطيبة وسمو الأخلاق ، وهو الوحيد من أفراد عائلتها الذي لم يتنكر لها ، رغم أنها جحدت معروفه وتآمرت عليه ، ولكنه مع هذا لم يبخل عليها بالصفح والغفران .
أما أختها خولة ، فقد سيطرت عليها بحسنها الفائق ، وجمالها الفاتن ، وبقوة شخصيتها وصرامتها ، وكانت عاملا من عوامل نكبتها ، فقد تكشف هذا الحسن الخارق عن روح حاقدة ، وغل دفين .
وقد توفي السلطان سعيد ، ولم تتم السيدة سالمة الثانية عشر من عمرها ، ثم تلته أمها بعد بضع سنوات ، فظلت بعدهما وحيدا نفسها ليس لها من يرعاها ويوجهها غير أختها خولة ، فقد ترتب على وفاة السلطان ظهور تغييرات جديدة بين أفراد عائلتها ، ونمط حياتهم ، فقد تغيرت أبعاد الصورة القديمة ، وتغيرت أدوار الأفراد فيها ، وظهرت للسلطان الجديد حاشية جديدة احتلت مقام الصدارة محل الحاشية القديمة ، وصارت نساء السلطان سعيد اللواتي كن يمارسن السلطة عن طريق زوجهن ، مجرد أرامل لا حول لهن عند السلطان الجديد ، وهكذا الأمر مع الأبناء والبنات الذين فقدوا صفتهم هذه ، ولم يعودوا غير أخوة طامعين في العرش ،وكان لهذه التغيرات آثارها المذهلة في نفس فتاتنا المراهقة التي لم تبلغ السادسة عشر من عمرها بعد ، فاشتركت بمحض الصدفة – هكذا تدعي – وبتأثير من أُختها خولة في مؤامرة من أخيها برغش ضد السُلطان الجديد ماجد ( أخيها الحبيب ) – كما تصفه دوماً – .
وقد نالها من هذه الحركة الرعناء الإرهاق والقلق وخُسران الصحة والمال ، وجفوة الأهل والأصحاب ، فنزحت إلى أملاكها في الريف مُتعبة نادمه ، وعاشت فيه فترة مُبعدة ومنفية ، ثم عادت إلى المدينة وصالحها أخوها ماجد وصفح عنها ، فعادت بينهما علاقات يمكن وصفها ( بالرسمية ) دون أن يعود إليها ما كان يربطهما في طفولتهما من إخاء عميق وود صاف متين ، ولكن ( عودة العلاقات هذه أثارت ضدها ضغينة شُركائها في المؤامرة ، وعلى رأسهم برغش وخولة ، وكان تأثير الأخيرة عليها كبيراً ، والظاهر أنها وهي لم تزل في حدود الثامنة عشر من عمرها قد حارت من أمرها ولم تعد تعرف ما يجب أن تعمل وكيف تتصرف ، فاعتزلت أهلها وأصدقائها ، وفي غمرة هذه الحالة النفسية التي يعلوها العصبية والقلق الفكري ، إلتقاها تاجر ألماني شاب يعمل في زنجبار ، فتعلق به قلبها وبادلها الحب واتفقا على الزواج ، ولعلنا نجد في هذا التصرف الغريب أثراً من تحيزات طبعها المتميز بالإتيان بغرائب الأمور ، وإصطياد أوابد الأفعال في محاولة لإثبات وجودها ، وتأكيد شخصيتها بعد الذي لقيته من الإهمال والجفاء ، وإذ لم يكن زوجهما ممكناً في زنجبار ، فقد هربت منها إلى عدن ، حيث لحق بها صاحبها بعد شهور ، ثم سافرا معاً إلى ألمانيا ، حيث ظنا أن المقام سيستقر بهما هناك ، ويحالفهما الحظ وهناء العيش .
ولكن الأقدار كانت لها بالمرصاد ، فقد توفي زوجها بعد وصولها بثلاث سنوات في حادث إصطدام تاركاً لها أطفالاً ثلاثة وتبعة ثقيلة إنحطت على كاهلها ، وكانت ضربة القدر الثانية وفاة أخيها السُلطان ماجد الذي كانت تطمع في أن يعينها في مصيبتها أو أن يسمح لها العودة إلى بلادها ، وقد تولى السلطنة بعدة أخوها برغش الذي كانت شريكته في المؤامرة والثروات ضد ماجد ، لكنه لم يغفر لها مصالحتها مع ماجد ، وعادت ثانية وحيدة مفردة في بلاد غريبة عنها ، وبين أُناس لم تألف سجاياهم وطبائعهم ، تحمل على كاهلها عبء تنشئة إبنها وإبنتيها .
ولم تذكر لنا السيدة سالمة في مذكراتها شيئاً عن حياتها في ألمانيا بعد وفاة زوجها ، وعن تجاربها وموارد رزقها ، ولكن يبدو لنا من الإشارات العابرة أنها مرت بتجارب قاسية ولاقت آلاماً كثيرة ، فهي حين تمر بذكر هذه الأحداث نشعر بما تحسه من مرارة وغصة .
ولا نستبعد أنها حملت معها من زنجبار مبالغ معقولة من المال بعد أن باعت هناك قبل السفر كل أملاكها ، كما حملت معها مقداراً لا بأس به من حليها وجواهرها ، وقد إستعانت بهذا المال في تربية أولادها والإنفاق عليهم ، ولابُد أنها تعرضت في ألمانيا إلى بعض أعمال النصب والإحتيال ، فقد خسرت أموالها ثم مرت بعد ذلك بظروف معيشية صعبة جداً ، وكانت هذه الظروف وحنينها الدائم إلى بلادها مصدر إلحاحها للعودة إلى زنجبار لتستقر وأولادها فيها أو على الأقل لتسترجع ثروتها وأموالها .
لكن أخاها السُلطان الجديد السيد برغش ( 1870 – 1888 م ) كان قاسياً غليظ القلب ، شديد البغض لها بسبب صلحها مع أخيها السُلطان السابق ماجد بعد مؤامرتهما عليه ، ناقماً عليها تنصرها ، وزواجها من أجنبي ، لذلك لم يسمح لها بالعودة .
لكن الأميرة بعنادها ودأبها حققت رغبتها بزيارة زنجبار ، فزارتها عام 1885 م زيارة قصيرة أثارت قلق الإنجليز والسُلطان ، ففرضا عليها رقابة صارمة ، وحصاراً مُحكماً ، وأثارت لدى أهل الجزيرة حماساً وفضولاً .
وفي هذه الفترة بالذات ، إزداد النفوذ البريطاني في زنجبار ، واشتدت قبضتهم على مقاليد الأمور ، وفي هذه الفترة أيضاً إشتد التنافس بين بريطانيا وألمانيا على إستعمار إفريقيا الشرقية ، وإستغلال ثرواتها ، وكانت تحاولان الزيادة والإمتداد وبسط النفوذ .
ويبدو لنا من سياق القصة وسير الأحداث ، أن الحكومة الألمانية قد أولت هذه الأميرة العربية المشردة بعض العناية والإهتمام ، حتى تهيأ لها أن تحصل على لقب " برنسيسه " ، وأن تكون موضع الظن إذا ما ذهبنا إلى أبعد من هذا ، وقُلنا أن الحكومة الألمانية ربما إستغلت وجود هذه الأميرة على أرضها كي تستخدمها كأداة في التنافس الإستعماري على إفريقيا بين الإمبراطوريتين ، ولربما إنساقت الأميرة إلى هذا المصير دون وعي أو إدراك منها لِما يُراد بها ، أو ساعدت فيه مدفوعة برغيتها الشديدة في العودة إلى بلادها ، أ, الإنتقام من أخيها الحاكم في زنجبار ، |أو لمجرد حب البروز والإتيان غرائب الأفعال لإثارة الإهتمام بها ، وهذه – كما رأينا – طبع أصيل فيها .
ولعل هذا هو السر الكامن وراء رفض الإنجليز طلبها بالتوسط لها بالصلح مع أخيها السُلطان ، ووراء رفض السُلطان نفسه – وخلفه الإنجليز – السماح لها بالرجوع إلى وطنها ، وهو نفسه سر الإرتياب والقلق الذي سارو السُلطات الحاكمة في زنجبار عند زيارتها المفاجئة لزنجبار – وهو الآخر عمل من أعمال الفجاءة والتحدي – في حماية الأسطول الألماني ، فلم تكن زيارة الأسطول زيارة ود ومجاملة ، بل كانت ليرضخا لمطالب الألمان ، لهذا كان وجود أُخت السُلطان مع الأسطول الإذلال والإهانة للسُلطان الذي لو تعرض تعرض لها بأي سوء ، فإن الحملة الألمانية تجد مبرراً للتدخل العسكري بحجة حماية مصالح أحد الرعايا الألمان .
لكن هذه الزيارة على ما يطهر لم تحقق غرضاً سياسياً ملموساً للحكومة الألمانية ، ولا نفعاً شخصياً للأميرة ، ولعل الألمان قد أهملوا أو قللوا من إهتمامهم بشأن هذه الأميرة ، بعد أن ساد الود والتفاهم بين الحكومتين الإنجليزية والألمانية في السياسة الخارجية .
ماذا بعد سالمة ( رودولف سعيد روث ) :
أن إبنها سعيد رودولف روث ، قد ألف كِتاباً عن جده السُلطان سعيد ، ونشرة باللُغة الإنجليزية في لندن عام 1929 م ( سلطنة عُمان خلال حُكم السيد سعيد بن سُلطان 1719 – 1856 م ) ، وقبل هذا وفي صيف عام 1920م ، زار لندن السيد خليفة بن حارب بن ثويني – سُلطان زنجبار أنذاك – فأقامت له الجمعية الأسيوية حفلة تكريم ، ألقى فيها سعيد – الحفيد هذا – مُحاضرة قيمة في تاريخ آلبوسعيد في عُمان وزنجبار ، ومن غرائب الصدف أن يكون المحاضر هو الحفيد الأول للسُلطان سعيد ، ويكون السُلطان المحتفى به هو الحفيد الثاني.
هذا وقد قام السُلطان خليفة بزيارة لندن مرة أُخرى عام 1937 م وكان معه الشيخ سعيد بن لعي المغيري ، فقال " فزاره سعيد ابن عمته ورد السُلطان له الزيارة في بيته ، وقدم سعيد روث للسُلطان قهوة بنية ، ومكثا يتحدثان طويلاً ، ومن ثَمَّ قام بإطلاعنا على منزلة ومكتبته ، ورأينا معه كُتباً عربية ، وصور سادات عرب عًمان وزنجبار ، ونظرنا في مخلفات والدته ، فوجدنا في بيته كِتاب " تحفه الأعيان في سيرة أهل عُمان " ، وغيرها من الكُتب العربية " ، ثم يستطرد مؤلف الكتاب إلى قوله : " وأخبرنا أن عمره 68 سنة ، وأن والدته توفت منذ 15 عاماً " ، أي في حدود الثمانين من عمرها ، وعلى هذا تكون السيدة سالمه قد عاشت عُمراً طويلاً حافلاً بالأحداث ، فقد تتبعت ولا شك أخبار مسقط وزنجبار ، وتقلب الأحوال فيهما ، وسمعت بوفاة أخيها برغش ، وبالمصير الآليم الذي حل بابنه خالد ، ولا نعلم شيئاً علاقتها بإخوانها السلاطين وأبنائهم من بعدهم ، فلعلها أن تكون قد إلتقت مع السُلطان السيد خليفة في زيارة إلى لندن عام 1920 م ، وفي زيارته الأولى عام 1911 م ، وإلتقت بمن سبقه من سلاطين زنجبار من إخوتها وأبناء إخوتها ، ممن إعتادوا على زيارة لندن بين حين وآخر " – إنهتى – .
كما شهدت في أُخريات أيامها إنهيار إمبراطورية ألمانيا ، وتشريد أصدقائها أعضاء عائلتها المالكة ، ولا نعلم شيئاً عن هجرة إبنها إلى لندن ، وما إذا كانت قد هاجرت معه ، أم ظلت في ألمانيا ، وكلها أمور تستحق البحث والإستقصاء .
* عن كتاب عُمانيات في التاريخ (لـ الكاتب العُماني خليفة بن عُثمان بن محمد البلوشي )