ظاهرة الخلافات عند الجنوبيين

يعتبر شعب الجنوب بكل المقاييس شعب متجانس لا تشوبه أي اختلالات بنيوية في مكوناته الاجتماعية والدينية. فليس في الجنوب كيانات طائفية أو عرقية أو مذهبية ولا توجد فيه "أقليات" أو "أكثريات" كما أنه لا يوجد أي تفكك في نسيجه الاجتماعي على أيّ من تلك الأسس التي تعاني منها معظم الدول العربية.

وبالرغم من أن دولة الجنوب كانت في سياق مسيرتها التاريخية عبارة عن مجموعة من الإمارات والسلطنات والمشائخ، إلا أن الطبيعة السوسيولوجية للمجتمع كانت متجانسة إلى حد بعيد مع بعض التمايزات الموضوعية لمكونات المجتمع على امتداد الجغرافيا في المناطق الجبلية والساحلية والصحراوية وفي المدن الكبيرة والأرياف، وهذه قيمة تضاف الى النظام الاجتماعي وليس العكس .

ما حدث للجنوب هو أن دولة الحزب الاشتراكي تعرضت لهزات متكررة كانت أكبرها في ٨٦ المشئوم حيث تمت التعبئة المناطقية وتعرض المجتمع لتصدعات خطيرة خاصة وأن الجيش الجنوبي كان ساحة الصراع الرئيسي ولم يستطع ان يمنع عبث السياسيين نتيجة لانقساماته وولاءاته.. وهو جيش مؤدلج وموال للحزب الحاكم، بالرغم من مهنيته العالية مقارنة بجيوش المنطقة.

لقد اقترن قيام دولة الجنوب بكثير من إشكاليات الإقصاء كما هو الحال في كل بلدان العرب، بالاضافة الى الصراعات المتتالية داخل المنظومة السياسية الحاكمة مما أدى الى نشوء بيئة سيكلوجية محفزة للتضاد والاختلاف وعدم الثقة بين شرائح مختلفة بداخل الطبقة السياسية والنخب المثقفة. وما نراه اليوم بادياً للعين هو محصلة لهذا الواقع السيكلوجي. وحين تفاقمت محنة الجنوب، وضعت الشعب كله على قواسم مشتركة جديدة وقوية وحيوية، وكانت كفيلة بأن يعم مزاج الجنوبيين وتعم نزعتهم الاستقلالية لتكبح أي رواسب اجتماعية سياسية جراء الحقبة الماضية..

لولا أن الطبقة السياسية ماتزال لم تتصالح مع الذاكرة ويغلب النزوع للاختلاف والتنافس الفوضوي على سلوكها بل وتصدّره لمكوناتها، خاصة الشرائح القيادية في الميدان. هذا الامر بالطبع يفتح الشهية أمام البعض لتفعيل بعض الإرتدادات المتأخرة لهزات الصراعات الماضية مع بعض الإيحاءات او الإسقاطات الممقوتة حالياً.

الحقيقة المغيبة أن في داخل كل منطقة جنوبية يوجد اليوم تنوع كبير في القناعات والمواقف والميول والأمزجة كما يوجد تنوع طبيعي بين الشرائح الاجتماعية والنخب، ومن الجهل الاعتقاد أن كل منطقة أو محافظة أو مديرية هي مجرد كتلة ديموغرافية صماء متماسكة كجلمود صخر..لأن هذا مجاف للحقيقة، وافتراض سطحي ينمّ عن قصور كبير.. ومن الطبيعي أن هذا التنوع  سيمنع اي اصطفافات مناطقية حقيقية.

إن أكثر الإشكاليات التي شوهت الوعي الوطني الجنوبي تمثلت في تغييب  معرفة العلوم التاريخية الاجتماعية لأهل الجنوب، بشكل مفصل، طيلة نصف قرن نتيجة غياب الاهتمام الممنهج ، بل والاغتراب عن الواقع بتمثّل مقاربات أيديولوجية صرفت المجتمع عن شأنه الخاص ليقفز على الذات الى الاهتمام بالمنظومة الاشتراكية من جهة وبالقضية اليمنية من جهة اخرى باعتبار الجنوب مجرد شطر وليس دولة وطنية ذات كيان واحد قائم بذاته ولذاته. تلك التوجهات الخطيرة وضعت الجنوب في مختبر خارج بيئته الثقافية والاجتماعية والنفسية، في فترة تكوينه الوليد كدولة مستقلة. 

فالجنوب هو أكثر الدول العربية اغتراباً عن جذوره التاريخية السياسية الاجتماعية وأقل الشعوب معرفة بالداخل الوطني لدولته وخصائص مكوناتها الاجتماعية وحقب تطورها، ولعله يفهم عن خارجه اكثر مما يفهمه عن داخله. لهذا لم يُسجل  حضور لأي تراكم حقيقي أو تراث متنامي بشكل منسجم لعناصر اللحمة الداخلية بالرغم من وجودها موضوعياً، ولا توجد مرجعيات لتهذيب انواع الخلافات وتجاوزها.

ومن جهة أخرى لم يفهم الجنوبيون مناطقهم وتنوعها وخصائصها واكتفوا بالاعتبارات العامة التي برزت معظمها في فترة الصراعات وظلت جاثمة في الذاكرة. وهكذا ظل الناس حتى اللحظة يتمترسون خلف الرواسب النفسية لتداعيات حقبة الحزب الحاكم وإفرازاتها.

الاختلافات الجنوبية صنعة سياسية موروثة لم يستطع الجيل الجديد تجاوزها خاصة وأن شرائح بارزة سواء في المشهد القيادي الجنوبي أو في سلطة صنعاء ما تزال تأخذ أهل الجنوب الى أودية الظلام الكئيبة وما تزال تعيد انتاج الذات وتوظف القضية الكبرى بل وتكيفها وفقاً لأهوائها المريضة.

الأمل في تجاوز كل ذلك سيأتي يقينا ليس من صحوة جنوبية، وقد حصلت، ولكن من انسداد المراهنات على الوحدة وازدياد المواجع المتوقعة، جراء الصراعات اليمنية التي أخذت طابعاً مغايراً للعادة وأصبحت أكثر شراسة وقوة، مع ضبابية القادم.

كل ذلك ربما يجعل الجنوب أكثر تماسك وحيطة ويضطر المتنافسون على ريادة المشهد أن يقتنعوا بان الحلبة تتآكل من تحت أقدامهم وأنهم سيسقطون جميعاً ان لم يغادرونها قبل فوات الأوان ويتجهون الى صفوف الناس مجردين من أوهامهم.

 * خاص - شبوه برس