بعد غيابي لسنوات عن المشاركة في ساحة المليونيات، شاركت اليوم في احتفالات الذكرى الـ51 لثورة الـ14 من أكتوبر، وكانت مشاركتي في اليومين المتتاليين وليلتيهما. هالني الجمع الغفير من شعب الجنوب الطيب، واغرورقت عيناي بالدموع، وأنا أرى شحوب الوجوه وسمارتها الفاتحة والداكنة والأدكن، وهي تمسح عرق حرارة الشمس، والأجساد المختلفة الأحجام التي تزاحمت في كتلة واحدة من أحلام الاستقلال والحرية، وأهلكها التعب والإرهاق من رحلة المسير من المحافظات البعيدة والقريبة، تحاول أن يعلو الوهج عيونها، وكلما علا خفت مرة ثانية، من قسوة الانتظار لسنوات طويلة لحلم يكسوه الأمل بأن الحرية قريبة المنال. وشد انتباهي تكدس النساء في مكان محصور وضيق، لا يكاد فيه الهواء يصل إليه إلا بصعوبة، واستغربت أن نحشر ككومة من الغربان السود في زاوية كهذه، أين؟ في مدينة عدن المدنية التي افتقدناها ونريد استعادتها كحاضنة لأبناء الجنوب، كمدينة للثقافة والحضارة والعلم والمحبة والسلام.
تفاجأت بذلك، ففي حين كنت أخرج في سنوات مضت منذ 2007 وحتى 2010، لم تكن تلك العقلية بنفي الآخر وتركينه موجودة، كنا معا على الأرض في ساحة الهاشمي، وفي الضالع وحضرموت... والخ، وكنا قلة قليلة، رغم أنه في أماكن مختلفة كنت وحدي. لقد كان ببساطة وإمكانية أن نكون بمربع واحد متسع يدخله الهواء من كل مكان، ونستطيع فيه استنشاق رائحة الأرض والتراب الذي يجمعنا في الساحة تحت مع إخوتنا الشباب وآبائنا الكبار، دون أن يتحرش بنا أحد. فطيلة عمرها المرأة الجنوبية كانت في نضالها جنباً إلى جنب الرجل، وبالإمكان أن يحيطنا سياج من أنفسنا لحمايتها من أي أحد يمكن أن يفكر بالتحرش، ولا أظن أنه كان هناك أحد يفكر في ذلك.
وتألمت لأن لهذا الشعب زعماء للأسف لا يدركون قيمته، ويعبثون به، ولن أقول قادة مثلما يطلقون عليهم، لأن القائد قدوة، وكل هؤلاء الذين نصبوا أنفسهم أولياء أمور على هذا الشعب، لم يكن أحدهم قدوة له، فالقدوة صفات حميدة وإيثار للآخرين على النفس، وتضحية دون مقابل، وشجاعة وبسالة، ونبل، ولديها تفكير إيجابي، وموجهة بالحلول والأفعال للناس، وخوض المخاطر، والتواصل المنفتح، والاستماع، والتفويض والتمكين، وفهم الآخرين وفهم الذات وفهم الموقف، والالتزام. يشارك القادة الأشخاص الآخرين مسؤولياتهم، وهم لا يملون عليهم ما يفعلون، بل يضربون المثل للآخرين ليحتذوا بهم. والقادة يشجعون الآخرين على التطور بأن يتحدوهم بتولي مسؤوليات جديدة، ويشجعونهم على النجاح، ويساندونهم إن أخفقوا. القادة يفهمون أن الأخطاء ما هي إلا دروس على طريق النجاح ليستفيدوا منها. يفهم القادة مدى أهمية العقل المنفتح والمحب للمعرفة؛ فالسعي الدائم وراء المعرفة يجلب المزيد من التفاهم. القائد يعتنق التغيير... لا محالة من وقوع التغيير. يميل الأتباع إلى مقاومة التغيير. من علامات القائد أن يعتنق التغيير، وينتهز الفرصة التي يقدمها هذا التغيير.
هذه هي صفات القادة. فمن من هؤلاء الذين نصبوا أنفسهم على هذا الشعب العظيم بنضاله وصبره، تتوافر فيه هذه الصفات؟ لم نجد فيهم أحداً حتى حاول أن تتوافر فيه جزئية بسيطة من هذه الصفات، على الرغم من أنها ليست مستحيلة. من منهم ذلك القائد الفذ الذي التقى بهذا الجمع الغفير، وقدم له تحليلاً، وليس بالضرورة مفصلا، بل موجزا، لما يتعلق بقضيته، دون أن يصطحب صحفياً أو إعلامياً ينمق له الحروف، ويزخرف الكلمات، أو يختفي وراء هتيف لشعارات ربما تعيق تحقيق بعض من أحلام الناس، وربما تضرهم.
وليس غريبا كذلك أن يكرس الإعلام السلطوي التابع لهؤلاء نفسه لهذه الحملة الدعائية لقائد ما منهم، وأن يصبغ عليها صفات البطولة والانتصار والإنجاز التاريخي، في حين أنه ليس له بطولة ولا إنجاز تاريخي، فهؤلاء مستفيدون مباشرة من مثل هذا التضخيم لحدث لن يقدم ولن يؤخر، ولن يضيف أي شيء لرصيد الجنوب السياسي أو الثقافي أو حتى الاقتصادي.. مستفيدون مباشرة من حالة الإلهاء المتعمد للجماهير، وتبديد طاقاتها، والتنفيس عما في داخلها من كبت، وصرف أنظارها بعيدا عن همومها الحقيقية وقضاياها الملحة، واستحقاقات التغيير التي يهال عليها التراب، وحالة الفساد المستشري، والإنهاك المنظم للوطن والمواطن الجنوبي، وضياع الاستقلال والمكانة.
أنا هنا لست ضد المليونية على الإطلاق، لكن مع مليونية وحشد يوضح للحشود فيها ماذا ستفعل غداً؟ ما هي استراتيجيتها القادمة؟ ولماذا تجمعت اليوم؟ لدينا 12 مليونية (إن كنت لم أخطئ في الحساب)! ولكن ماذا عن هذه الغالبية التي لا مصلحة لها من قريب أو بعيد من وراء هذه الضجة، وهذه المعارك المصطنعة بين من نصبوا أنفسهم أولياء أمور، وبين النصر الزائف؟! أليس من العبث أن يخرج الآلاف من أبناء الشعب إلى الشارع من أجل ترديد الشعارات دون أن يعرفوا ماذا سيكون بعد ذلك، أو ماذا حدث قبل هذه المليونية، والتي سبقتها؟ ولا يخرجون من أجل حقوقهم المنتهكة معيشيا وأمنيا كل يوم، أن يسهروا حتى الصباح في الشوارع، يصيحون ويهللون من أجل أن يسمعهم العالم، وهو قد سمعهم مرارا وتكرارا، ولم يجد شيئاً جديداً قيل في تجمهرهم، وما هي خطواتهم القادمة، ولا يتظاهرون من أجل تغيير أوضاع يعرف القاصي والداني بأنها مزرية، وقادة ونظام يقود الجنوب إلى حافة الهاوية؟! ماذا بعد؟
كنت أتوقع أن أستمع لمفاجأة جديدة بأن هناك عملاً ثورياً لكل هذه الجموع مجتمعة، وليس لأفراد بعينهم. من المؤسف حقا أن نرى هذا الانجراف الجماهيري، والانسياق وراء الإعلام السلطوي الذي دأب مؤخرا على اختزال الوطنية في مثل هذه الأحداث الآنية، بأن هذه رسالة الانتصار والحرية، والعزف على هذه الأوتار والإلحاح عليها، وتسويق أفكار من قبيل أن هذه المليونية هي التي ستحدد المصير بهذا الهوس المبالغ فيه، دليل على الوطنية وحب الوطن، وأن رفع العلم أمر واجب في مثل هذه المناسبات التي كانت ذات يوم سبباً في موت العديد من الشباب، على مستوى معارك التحدي والكرامة، على نحو يبتذل من قيمة وقدسية هذا الرمز الوطني الجليل، عنوان الاستقلال والسيادة، والتعامل معه بمنطق "الموضة"، على غرار موجة العلم الأمريكي والعلم السعودي والعلم الفلسطيني التي سادت لبعض الوقت، ثم تلاشت، فضلا عن تشويه الشعور بالانتماء الذي يجب أن يكون لصيقا بالمواطنين صباح مساء، وفي كل موقع وموقف، ويُترجم في سلوكيات يومية ومعادلة الحقوق والواجبات، وليس تحويله إلى أمر عابر يحكمه منطق "الهوجة الفوضوية"، واحتفالات تفريغ الشحنات السالبة المختزنة، بفعل الواقع المحبط والحريات المفقودة والعدالة الغائبة.
من ينتمي لهذا البلد "للجنوب" حقاً، عليه أن يعطي الاهتمام المادي والإعلامي والجماهيري، للبنى التحتية والبيئة والثروة التي دمرها الفساد، ويجب أن تستعاد، للعلم والفكر والأدب والفن، صناعة النهضة في أي مجتمع، وقيمتها الحقيقية المضافة لنا.
إن الشعوب الحية لا تفقد الوعي، فهي وحدها التي لا تستجيب لمنطق الحشد وسلوك القطيع، وتعرف فقه الأولويات، ولا تغرق في الثانويات، وتوافه الأمور، ولا تولي وجهها بعيدا عن قضاياها المصيرية، وما ينتظرها في غدها، وكأنه ليس لها من الأمر شيء، ولا يعنيها. والشعوب المهزومة المستجيبة للقمع والاستغلال، وذات القابلية للاستعباد، هي التي تخوض معارك افتراضية، وتبحث عن انتصارات زائفة تمنحها بعض السلوى، والشعور بالتحقق الوهمي، ولو لبعض الوقت.
وأخيرا، أقول للجميع ممن نصبوا أنفسهم عن هذا الشعب، وللشعب وللقيادة في الشمال: اتقوا الله في الجنوب، وكفى عبثا ولهوا به وبمصيره.. يكفي ما وصلنا إليه من انحدار، واتساع لحجم مثلث التخلف بأضلاعه الـ3: الجهل والفقر والمرض، على نحو يضعنا في مؤخرة العالم الثالث، وليس الأول.. فاليمن جنوبا بتاريخها وإمكاناتها، لا تستحق هذه الوضعية بأي حال من الأحوال.
ناشطة حقوقية ومحامية
* عن الأولى